صدر عن دار التنوخي للنشر بالمغرب كتاب تحليلي من القطع المتوسط بعنوان “فن السيرة الذاتية” للدكتور جميل الحمداوي، وقد تناول فيه أهم السير العربية كنماذج: - “في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون. - “الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان. - “أديب” لطه حسين. - “رجوع إلى الطفولة” لليلى أبو زيد. - “الرحيل” و”الألم” للعربي باطما. هذا، ويبين لنا الدكتور جميل حمداوي من خلال هذه السير كيف أن السيرة الذاتية تستند إلى الاستبطان الداخلي للشخصية في علاقتها بالواقع الموضوعي. ومن ثم، فهي ترتكز خطابيا على سرد الحياة الشخصية للمبدع أو الكاتب أو الفنان ، وذلك من خلال استرجاع فترات من حياته ، مع ذكر المعيقات التي واجهها الكاتب في حياته منذ طفولته حتى شبابه ورجولته وكهولته. وفي هذا السياق ، يعرف فليب لوجون السيرة الذاتية أو الأوطوبيوغرافيا Autobiographieبأنها عبارة:”عن محكي استرجاعي نثري يحكيه شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته”. ويعني هذا أن السيرة الذاتية تمتاز بمجموعة من الخصائص الدلالية والفنية والجمالية، والتي تتمثل في التركيز على الذات، واستخدام ضمير المتكلم، والمطابقة العلمية، والتأرجح بين المسوغ الذاتي (الحياة الفردية والشخصية) والاستقراء الخارجي(استقراء أحداث الواقع)، وتمثل النثر والكتابة السردية المحكية طريقة في التعبير، والميل إلى استخدام الزمن الهابط ، وتشغيل تقنية الاسترجاع (فلاش باك). وثمة نوعان من السير الذاتية من حيث الإيقاع السردي: سيرة تمجيدية تشيد بانتصار الشخصية الرئيسة على مثبطات الواقع كسيرة “الأيام” لطه حسين، وسيرة مأساوية مريرة تنتهي بالعجز والموت والفشل كسيرتي “الألم” و”الرحيل” للكاتب المغربي العربي باطما. ويعرف عبد السلام المسدي خطاب السيرة الذاتية باعتباره:”جنسا أدبيا ينطلق من إطار اهتمام الإنسان بسيرته الشخصية ، وهي تحمل في طياتها ضربين من الازدواج: تراكب غرض ظاهر مع غرض باطن من جهة ، ثم تضافر استقراء موضوعي مع تسويغ ذاتي من جهة أخرى، فإذا بهذا الازدواج المتضاعف يستحيل معضلة فنية لا يقاس توفق الكاتب في هذا الجنس الأدبي إلا بمدى إحكامه لنسج ظفيرتها. على أن الثنائية النوعية التي يجتمع فيها الاستقراء الخارجي للأحداث مع الاستبطان الداخلي للانفعالات والأحاسيس هي التي تدفع الناقد إلى استشفاف طبيعة الالتحام في هذا الجنس الأدبي بين مستلزمات ذات ال”أنا” ومقتضيات الغائب. وغير خفي ما بين هذين الجدولين من تباين في معين الإلهام ومصبات الإفضاء الشعري” ومن المعروف تاريخيا أن السيرة الذاتية فن أدبي قديم ظهر عند الكتاب الأمازيغ أولا وخاصة عند القديس أوغسطين صاحب كتاب “الاعترافات” ذي الطابع التيولوجي المسيحي. وقد عرفها الغرب بعد ذلك كما هو الحال عند جان جاك روسو في كتابه “الاعترافات”، والكاتب الفرنسي مارسيل بروست في روايته الخالدة “البحث عن الزمن الضائع”، والكاتب الإنجليزي جيمس جويس في “صورة الفنان في شبابه”... وقد عرف هذا الفن الأدبي أيضا إشعاعه الفني كتابة وتصويرا وبيانا وبديعا لدى العرب في العصر الوسيط كما يدل على ذلك كتاب “المنقذ في الضلال” لأبي حامد الغزالي، وكتاب ابن خلدون: “التعريف برحلة ابن خلدون شرقا وغربا”... ويمكن تعداد الكثير من السير الذاتية في أدبنا العربي الحديث ككتاب “الساق على الساق فيما هو الفارياق” للشيخ أحمد فارس الشدياق، وسيرتي “الأيام” و”أديب” لطه حسين، وسيرتي “أنا” و”سارة” للعقاد، و”حياتي” لأحمد أمين، و”تربية سلامة موسى” لسلامة موسى، و”إبراهيم الكاتب” لعبد القادر المازني، و”عصفور من الشرق” و”يوميات نائب في الأرياف” و”عودة الروح” لتوفيق الحكيم، و”حياتي في الشعر” لصلاح عبد الصبور، و”في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون، و”رجوع إلى الطفولةّ” لليلى أبوزيد، و”الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان، و”الزاوية” للتهامي الوزاني، و”الخبز الحافي” و”الشطار” لمحمد شكري، وسيرتي”الألم” و”الرحيل” للعربي باطما، و”الحجرة الصدئة” لعمرو القاضي، و”قصتي مع الشعر” و”من أوراقي المجهولة” لنزار قباني، ورواية “أوراق” لعبد الله العروي... وعلينا ألا نخلط السيرة الذاتية بالسيرة الغيرية؛ لأن البيوغرافيا الغيرية منتشرة بشكل كبير في الآداب الغربية والعربية على حد سواء، مادامت هذه البيوغرافيا ترجمة توثيقية أو فنية أو إخبارية ترصد حيوات الآخرين على حساب ذات المبدع الكاتب، وتؤرخ لها من منطلقات نفسية واجتماعية وتاريخية وفنية..... وما يهمنا في هذه التوطئة هي السيرة الذاتية التي تنبع من الذات الفردية في تفاعلها الجدلي مع الواقع المحيط صراعا أو تعايشا. ويلاحظ أيضا أن السيرة الذاتية قد تتخذ عدة أنماط تعبيرية كالرواية والقصة والدراما والكتابة الفكرية والإخبارية والسيناريستية.