مهما كتبنا في حقهن فلن نوفيهن و لو جزءا يسيرا مما يستحقن ، يسهرن الليالي بحثا عن راحتنا ، يقضين ساعات طوال في المطبخ لإرضاء رغباتنا ، يكابدن الهموم و ينسين ذواتهن و لا يبالين براحتهن و لا صحتهن فقط لنكون نحن سعداء و بخير ، هكذا هي ببساطة تلك الأم التي حملتنا في بطنها تسعة أشهر و صبرت على شغبنا و مصائبنا و كل سلبياتنا طيلة السنوات التي كتب لنا أن نعيشها. قالوا بأن أشد الناس صبرا من كانت أمه تحت التراب و لم يجن بعد ، و قالوا أيضا بأنه و نحن صغار لما نزور الطبيب و نحن مرضى يسألنا عن نوعية مرضنا فنفتح أفواهنا في ظل غياب الجواب فننظر لأمهاتنا و نتركهن يجبن مكاننا ، ببساطة لأننا نثق أنهن يشعرن بما نحس به ، قالوا أيضا الرجال من صنعتهم أمهاتهم و قبل ذلك تحدثوا عن الأم فقالوا عنها مدرسة بصلاحها يصلح المجتمع و بأنها القوة في لحظات الضعف و بأن أعظم كتاب يقرأه الإنسان بعد القران هو أمه و غيرها من الأمور ، الأم فعلا كلمة كبيرة يعجزاللسان عن التعبير عنها ، فهل هي التي تلد فقط أم التي تعطي ولا تأخذ أم التي تتحمل المآسي من أجل أبنائها؟ الأن و نحن في غمرة رمضان ، منا من ماتزال الحنونة بجانبه ، يستيقظ على صوتها المليء بالحب و المشاعر الفياضة ، منا من أبعدته ظروف الحياة و مطباتها عن دفء الغالية فنفي خارج قلعة الحنان و ظل يتربص أنصاف الفرص لزيارتها في كل مناسبة و حين ، و منا من يشتاق لذكر عبارة "أمي" بعدما لم تسعفه الأقدار في الاستمتاع بترديدها طويلا بسبب قدرها المحتوم. في رمضان ، تكثر مشاغل الأمهات خاصة في المطبخ ، تزداد الطلبات و تتنوع الرغبات فلا تجد الأم المسكينة المغلوبة على أمرها بدا سوى الاستجابة لهوى الزوج و الأبناء ، تستيقظ باكرا قبل الجميع رغم أنها أخر من وضعت رأسها على المخدة في الليلة السابقة ، تشد الهمة و تنشغل في أمور المطبخ حتى توفر لأبنائها و أسرتها جوا من الراحة لصيام رمضان في أفضل الظروف. تشتغل كثيرا و نادرا ما نرد لها الجميل بالثناء ، رغم وقوفها في المطبخ لساعات طويلة متحملة عناء الصيام و الحرارة و التعب تجدنا في أخر اليوم و نحن جالسون نتناول بشراهة ما أعدته أناملها ننتقذ الملح الزائد الذي عكر مذاق إحدى الوجبات التي تزين مائدة الإفطار أو نذم غياب شيء ما نسيت المسكينة جلبه ، حتى كلمة "شكرا أمي" لا توجد في قواميس الغالبية العظمى منا مع كامل الأسف رغم أنها كفيلة بأن تنسيها كل التعب و تزيح عنها جبال المعاناة التي تتكبدها خدمة لنا و إرضاءا لخواطرنا. ظاهرة جديدة بدأت تستفحل في مجتمعاتنا في شهر رمضان و هي كون المطبخ في هذا الشهر أصبح حكرا على الأم فقط بينما البنات يفضلن تزجية الوقت في انتظار أذان المغرب بالدردشة على تطبيقات "الواتساب" و "الماسنجر" و غيرها أو مشاهدة مسلسلات شرقية ربت في غالبيتهن الرغبة في التسلق الطبقي و المظاهر الاجتماعية الزائفة و أفقدتهن جوهر الإنسانية و غريزة الأمومة التي يتوقع أن يصرن على دربها ذات يوم. قد لا نتشاطر الأفكار و لا التصورات ذاتها، لكن إسألوا من فقد أمه و سيحكي لكم عن قيمتها التي أحس بها بعد وداعها لمثواها الأخير، إسألوا من اغترب عن أمه سنوات من الزمن يسرد لكم كيف أدرك أن السعادة الحقيقية هي نظرات و ابتسامة أم راضية مرتاحة ، إسألوا من يصوم بعيدا عن دفء العائلة و "شهيوات" الأم يقصص عليكم الفوارق الشاسعة بين الأمس و اليوم ، و لا تنسوا أن تلك الأيام نداولها بين الناس فاغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان. هي مجرد كلمات و خواطر قد تفتقد لجنس العمل الصحفي لكنها الأم فكيف لنا أن نقيدها في مميزات و نحصرها في قواعد محددة ، هي الأم وما أدراك ما الأم ، إنها إحساس ظريف وهمس لطيف وشعور نازف بدمع جارف ، هي الأم كنز مفقود لأصحاب العقوق و ثروة موجودة لأهل البر والود، هي الأم تبقي كما هي، في حياتها وبعد موتها، في صغرها وكبرها، هي عطر يفوح شذاه وعبير يسمو في علاه وزهر يشم رائحته الأبناء وأريج يتلألأ في وجوه الآباء، هي دفء وحنان، جمال وأمان، محبة ومودة، رحمة وألفة، أعجوبة ومدرسة وشخصية ذات قيم ومبادئ وعلو وهمم. هي الأم ، هي قسيمة الحياة وموطن الشكوى، عماد الأمر وعتاد البيت ومهبط النجاة، هي آية الله ومنته ورحمته لقوم يتفكرون، هي ببساطة سر السعادة في الحياة، هي مفتاح الجنة والكلام فيها لاينتهي ، فأرجوكم رأفة بها في هذا الشهر الكريم ، هي رسالة لم تقلها لنا أمهاتنا ، لكن لا بأس من أن نتقمص الدور لعل صداها يصل لمن يهمه الأمر : ما لم تقله أمي : يحزنني إنشغالكم بهواتفكم عني٬ فلا تراعون جهلي بهذه الأمور وكأني طفلة بينكم لا أفقه شيئا ٬ سبحان الله ما أقسى قلوبكم علي في تلك اللحظات فلا تعيروني أدنى إنتباه ، يبدو أنكم جئتم للحديث بينكم وليس لي نصيب من الحديث معكم فلا يعجبكم حديثي ولا يعجبني حديثكم؟؟ ما لم تقله أمي: يؤلمني وقوفي في المطبخ مع آلام ظهري وتيبس قدماي ، هل أصبحت خادمة لكم ولأطفالكم فقط؟ كم يسعدني أن تشعروني بشكركم لي على ما قدمت وكيف عرفتم مقدار التعب الذي تعبته حين أصبح لكم بيوت وأبناء ولا تلوموني في كثرة السؤال والبحث عنكم كما تبحثون وتسألون عن أبنائكم فأنتم لا زلتم أولادي وقلبي يعتصر شوقاً لاحتضانكم. ما لم تقله أمي: قد بلغت من الكبر عتياً وأنا بحاجة إلى بّركم وتلطفكم لي، لست بحاجة إلى توجيهاتكم وكأني طفلة لا تحسن التصرف (أفعلي هذا يا أمي ولا تفعلي) فقد بلغت، قد كنت خادمة لكم في الصغر٬ أفلا أحتاج جزءا من أموالكم شهريا و قسطا من حنانكم المتبادل و اهتمامكم أيضا فكم ستدخلون علي من السرور، فأنا أقطف ما زرعت وسترون البركة في دعواتي لكم. ما لم تقله أمي: لماذا تغضبون بسرعة فأنا لم أقصد إنتقاص أزواجكم أو أبنائكم، أنا أمكم ويهمني ما يهمكم، أفرح كثيراً بزيارتكم المفاجئة لي في أي وقت وبالذات عندما أكون لوحدي، أحبكم و سيأتي يوم تدخلون على بيتي ولا تجدونني، تقبلوا نصيحتي يا أبنائي فمهما قسوت عليكم فأنا أحبكم فرجاءا ارحموني … تلك المرأة التي أوصى الحق تبارك وتعالىبها من خلال عدد من الأيات نذكر منها "ووصّينا الإنسان بوالديه حَملته أمه وَهْناً على وهن، وفِصاله في عامين أنْ اشكر لي ولوالديك إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحِبْهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" لقمان:14-15 ، كما حثنا رسوله صلوات الله وسلامه عليه على برها ، فقد سُئل مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قيل ثم من ؟ قال "أمك"، قيل ثم من؟ قال "أمك"، قيل ثم من؟ قال "أبوك" رواه البخاري. تللك العظيمة التي لا تكفيها قصائد الشعراء ولا أقوال الحكماء ، وحده رضى الزوج و ابتسامة الأبناء تنسيها مشقة الدنيا و كامل العناء ، فهلموا لحضن أمهاتكن بالشكر و الثناء إن كن مازلن أحياء و إن كنا غير ذلك فلا تنسوهن بخير الدعاء و رمضانكم مبارك سعيد.