«الماضي الذي عشته أسقطته من حياتي واعتبره عمرا ضاع مني دون أن أدري، فمجرد ذكره يسبب لي نوعا من الغثيان والقرف، لقد كنت أشعر دائما أن بداخلي شيئا ما يخاطبني يقلقني يرعبني، لقد كانت هناك أحاسيس بداخلي وأنا في قمة سعادتي كانت تحول السعادة إلى قلق وحيرة».. بهذه الكلمات وصفت الفنانة المعتزلة شمس البارودي في كتابها «رحلتي من الظلمات إلى النور»، قصة تحولها من ممثلة ارتبط اسمها بادوار الإغراء إلى سيدة ترتدي النقاب، بعدما قررت الاعتزال منذ ما يقرب من 34 عاما وارتدت النقاب وهي في أوج جمالها وشهرتها وشبابها وقبل أن ينتشر النقاب في مصر بهذه الصورة، ولم تفلح الحرب والمضايقات والاتهامات التي تعرضت لها خلال هذه السنوات عن إثنائها عما بدأته. وشكل حجاب الفنانات ظاهرة مثيرة في أواخر الثمانينات حيث كثر الحديث عنها وقيل إن وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالا طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني، وبقى التشكيك يلاحق كل فنانة تعتزل وترتدي الحجاب، لتتحول إلى داعية إسلامية فيما بعد وتبدأ كل واحدة تروي أسرار اعتزالها عبر صفحات الصحف أو تصبح صاحبة برنامج تلفزيوني تعطي «فتاوى» على الهواء. ويعرض كتابي «الفن الواقع والمأمول.. قصص توبة الفنانات والفنانين» للدكتور خالد عبدالرحمن الجريسي، و«التائبون إلى الله» تأليف إبراهيم الحازمي، «دار الشريف» 1998، قصة توبة الفنانة شمس البارودي واعتزالها الفن وارتدائها الحجاب التي روتها هي بنفسها في كتابها «رحلتي من الظلمات إلى النور». وقالت «شمس»: «البداية كانت في نشأتي، والنشأة لها دور مهم، والدي رجل متدين، التدين البسيط العادي، وكذلك كانت والدتي، وكنت أصلي لكن ليس بانتظام، وكانت بعض الفروض تفوتني ولم أكن أشعر بفداحة ترك فرض من فروض الصلاة، وللأسف كانت مادة الدين في المدارس ليست أساسية وبالطبع لم يكن يرسب فيها أحد، ولم يكن الدين علما مثل باقي العلوم الأخرى الدنيوية». وأضافت: «وعندما حصلت على الثانوية العامة كانت رغبتي إما في دخول كلية الحقوق أو دراسة الفنون الجميلة، لكن المجموع لم يؤهلني لأيهما، فدخلت معهد الفنون المسرحية، ولم أكمل الدراسة فيه حيث مارست مهنة التمثيل، وأشعر الآن كأنني دفعت إليها دفعا، فلم تكن في يوم من الأيام حلم حياتي لكن بريق الفن والفنانين والسينما والتليفزيون كان يغري أي فتاة في مثلي سني، وكان عمري وقتها لا يزيد عن 17 عاما، خاصة مع قلة الثقافة الدينية الجيدة». وتابعت: «وأثناء عملي بالتمثيل كنت أشعر بشيء في داخلي يرفض العمل حتى أنني كنت أظل عامين أو 3 دون عمل حتى يقول البعض إنني اعتزلت». وأكدت «شمس»: «الحمد لله كانت أسرتي ميسورة الحال من الناحية المادية فلم أكن أعمل لحاجة مادية، وكنت أنفق العائد من عملي على ملابسي ومكياجي وما إلى ذلك، واستمر الوضع حتى شعرت أني لا أجد نفسي في هذا العمل، وشعرتُ أن جمالي هو الشيء الذي يُستغل في عملي بالتمثيل، عندها بدأت أرفض الأدوار التي تُعرض عليً، التي كانت تركز دائما على جمالي الذي وهبني الله إياه وعند ذلك قلّ عملي جدا». وقالت «شمس»: «وكان عملي بالتمثيل أشبه بالغيبوبة، وكنت أشعر أن هناك انفصاما بين شخصيتي الحقيقية والوضع الذي أنا فيه، وكنت أجلس أفكر في أعمالي السينمائية التي يراها الجمهور، ولم أكن أشعر أنها تعبّر عني، وأنها أمر مصطنع، كنت أحسّ أنني أخرج من جلدي». وأضافت «شمس»: «وبدأت أمثل مع زوجي حسن يوسف في أدوار أقرب لنفسي فحدثت لي نقلة طفيفة من أن يكون المضمون لشكلي فقط بل هناك جانب آخر، وأثناء ذلك بدأت أواظب على أداء الصلوات بحيث لو تركت فرضا من الفروض استغفر الله كثيرا بعد أن أصلّيه قضاء، وكان ذلك يحزنني كثيرا، وكل ذلك ولم أكن ألتزم بالزي الإسلامي». وتابعت «شمس»: «وقبل أن أتزوج كنتُ أشتري ملابس من أحدث بيوت الأزياء في مصر وبعد أن تزوجت كان زوجي يصحبني للسفر خارج مصر لشراء الملابس الصيفية والشتوية، وأتذكر هذا الآن بشيء من الحزن، لأن مثل هذه الأمور التافهة كانت تشغلني». واستكملت: «بدأت أشتري ملابس أكثر حشمةً، وإن أعجبني ثوب بكمّ قصير كنت أشتري معه (جاكيت) لستر الجزء الظاهر من الجسم، وكانت هذه رغبة داخلية عندي، وبدأت أشعر برغبة في ارتداء الحجاب، لكن بعض المحيطين بي كانوا يقولون لي إنكِ الآن أفضل». وروت «شمس»: «بدأت أقرأ في المصحف الشريف أكثر، وحتى تلك الفترة لم أكن قد ختمت القرآن الكريم قراءة، كنت أختمه مع مجموعة من صديقات الدراسة، ومن فضل الله أنني لم تكن لي صداقات في الوسط الفني، بل كانت صداقاتي هي صداقات الطفولة، كنت أجتمع وصديقاتي، حتى بعد أن تزوجت، في شهر رمضان الكريم في بيت واحدة منا نقرأ القرآن الكريم ونختمه وللأسف لم تكن منهن من تلتزم بالزي الشرعي». وحكت «شمس»: «في تلك الفترة كنت أعمل دائما مع زوجي سواء كان يمثل معي أو يُخرج لي الأدوار التي كنت أمثلها، وأنا أحكي هذا الآن ليس باعتباره شيئا جميلا في نفسي، لكن أتحدث عن فترة زمنية عندما أتذكرها أتمنى لو تمحى من حياتي ولو عدت إلى الوراء لما تمنيت أبدا أن أكون من الوسط الفني، وكنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة لأن ذلك هو الحق والله تعالى يقول: (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليَعبدون)». وقالت «شمس»: «كنت عندما أذهب إلى المصيف أتأخر في نزول البحر إلى ما بعد الغروب ومغادرة الجميع للمكان إلا من زوجي، وأنا أقول هذا لأن هناك من تظن أن بينها وبين الالتزام هُوَّةٌ واسعة لكن الأمر بفضل الله سهل وميسور فالله يقول في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلىّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلى ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً)». وأضافت: «وكانت قراءاتي في تلك الفترة لبرجسون وسارتر وفرويد وغيرها من الفلسفات التي لا تقدم ولا تؤخر وكنت أدخل في مناقشات جدلية فلسفية وكانت عندي مكتبة ولكني أحجمت عن هذه القراءات دون سبب ظاهر». وتابعت: «كانت عندي رغبة قوية في أداء العمرة، وكنت أقول في نفسي إنني لا أستطيع أن أؤدي العمرة إلا إذا ارتديت الحجاب لأنه غير معقول أن أذهب لبيت الله دون أن أكون ملتزمة بالزي الإسلامي، لكن هناك من قلنَ لي: لا.. أبدا.. هذا ليس شرطا.. كان ذلك جهلاً منهن بتعاليم الإسلام لأنهن لم يتغير فيهن شيء بعد أدائهن للعمرة». واستكملت: «وذهب زوجي لأداء العمرة ولم أذهب معه لخوفي أن تتأخر ابنتي عن الدراسة في فترة غيابي، لكنها أصيبت بنزلة شعبية وانتقلت العدوى إلى ابني ثم انتقلت إليّ، فصرنا نحن الثلاثة مرضى، فنظرت إلى هذا الأمر نظرة فيها تدبر وكأنها عقاب على تأخري عن أداء العمرة». وذكرت «شمس»: «وفي العام التالي ذهبت لأداء العمرة وكان ذلك عام 1982 في شهر فبراير وكنتُ عائدة في ديسمبر من باريس وأنا أحمل أحدث الملابس من بيوت الأزياء، وكانت ملابس محتشمة لكنها أحدث موديل، وعندما ذهبتُ واشتريت ملابس العمرة البيضاء كانت أول مرة ألبس الثياب البيضاء دون أن أضع أي نوع من المساحيق على وجهي ورأيت نفسي أكثر جمالا». وأوضحت «شمس»: «ولأول مرة سافرت دون أن أصاب بالقلق على أولادي لبُعدي عنهم وكانت سفرياتي تصيبني بالفزع والرعب خوفا عليهم.. وكنت آخذهم معي في الغالب، وذهبتُ لأداء العمرة مع وفد من هيئة قناة السويس، وعندما وصلتُ إلى الحرم النبوي بدأت أقرأ في المصحف دون أن أفهمَ الآيات فهما كاملا لكن كان لدي إصرار على ختم القرآن في المدينة ومكة، وكانت بعض المرافقات لي يسألنني: هل ستتحجبين؟ وكنت أقول: لا أعرف.. كنت أعلق ذلك الأمر على زوجي.. هل سيوافق أم لا... ولم أكن أعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وأكدت: «في الحرم المكي وجدت العديد من الأخوات المسلمات اللائي كُنَّ يرتدين الخمار وكنت أفضل البقاء في الحرم لأقرأ القرآن الكريم، وفي إحدى المرات أثناء وجودي في الحرم بين العصر والمغرب التقيتُ بإحدى الأخوات وهي مصرية تعيش في الكويت اسمها (أروى) قرأتْ عليّ أبياتا من الشعر الذي كتبته هي فبكيت، لأنني استشعرت أنها مسّت شيئا في قلبي وكنت في تلك الفترة تراودني فكرة الحجاب كثيرا، لكن الذي من حولي كانوا يقولون لي: (انتظري حتى تسألي زوجك.. لا تتعجلي... أنت مازلتِ شابة... إلخ)، لكن كانت لدي رغبة دائمة في ارتداء الحجاب». وقالت «شمس»: «وبعد ذلك ذهبت لأداء العمرة لأخت لي من أبي توفيت وكنت أحبها كثير، وبعد أداء العمرة لم أنم تلك الليلة واستشعرت بضيق في صدري رهيب وكأن جبال الدنيا تجثم فوق أنفاسي، وكأن خطايا البشر كلها تخنقن، وكل مباهج الدنيا التي كنت أتمتع بها كأنها أوزار تكبلني». وأضافت: «وسألني والدي عن سبب أرقي، فقلت له: (أريد أن أذهب إلى الحرم الآن، ولم يكن الوقت المعتاد لذهابنا إلى الحرم قد حان، لكن والدي، الذي كان مجندا نفسه لراحتي في رحلة العمرة، صحبني إلى الحرم وعندما وصلنا أديتُ تحية المسجد وهي الطواف وفي أول شوط من الأشواط السبعة يسّر الله لي الوصول إلى الحجر الأسود ولم يحضر على لساني غير دعاء واحد لي ولزوجي وأولادي وأهلي وكل من أعرف، ودعوت بقوة الإيمان، ودموعي تنهمر في صمت ودون انقطاع، وطوال الأشواط السبعة لم أدعُ إلا بقوة الإيمان، وطوال الأشواط السبعة أصل إلى الحجر الأسود وأقبّله». وتابعت: «وعند مقام إبراهيم عليه السلام وقفت لأصلي ركعتين بعد الطواف وقرأت الفاتحة، كأني لم أقرأها طوال حياتي واستشعرت فيها معانٍ اعتبرتها منة من الله، فشعرت بعظمة فاتحة الكتاب، وكنت أبكي وكياني يتزلزل، وفي الطواف استشعرت كأن ملائكة كثيرة حول الكعبة تنظر إلي، استشعرت عظمة الله كما لم أستشعرها طوال حياتي». واختتمت «شمس» حكايتها، قائلة: «ثم صليت ركعتين في الحِجر وحدث لي الشيء نفسه كل ذلك كان قبل الفجر، وجاءني والدي لأذهب إلى مكان النساء لصلاة الفجر عندها كنت قد تبدلت وأصبحت إنسانة أخرى تماما، وسألني بعض النساء: (هل ستتحجّبين يا أخت شمس؟)، فقلت: (بإذن الله، حتى نبرات صوتي قد تغيرت، تبدلت تماما، هذا كل ما حدث لي، وعدتُّ ومن بعدها لم أخلع حجابي». وجاء في كتاب «الفن الواقع والمأمول.. قصص توبة الفنانات والفنانين»، أنه بعد عودة «شمس» من العمرة مع والدها في فبراير 1982، قررت اعتزال التمثيل وارتداء الحجاب لتصبح بذلك أول فنانة على الإطلاق تعلن اعتزالها وتعلن التبرؤ من جميع أعمالها بعد أن قدمت أكثر من 41 فيلما». ونقل الكتاب عن «شمس» قولها: «إن الحملات التي أتعرض لها شيء عجيب ومثير للدهشة، لقد بدأت تلك الحملات بعد أن هداني الله بفضله وعظمته». وأضافت «شمس»، حسبما جاء في الكتاب: «أخذوا يعرضون أفلامي التي تبرّأت منها، ورأيتها ذنبا سأظل طيلة عمري أبكي ندما عليه، لدرجة أنه بعد حجابي واعتزالي الفن بشهور، كانت جميع دور العرض في مصر، وفي البلاد العربية أيضا، تعرض الأفلام التي تبرأت منها، ظنوا أنهم بذلك يحاربونني، لكنني أقول لهم: (إنكم لا تحاربونني أنا، بل تحاربون الله)». وتابعت «شمس»: «إن حيائي هو زينتي، واحتشامي هو رأس مالي، وقد نشرت أكثر من إعلان بالصحف أرجوهم فيه أن يحرقوا هذه الأفلام بعد أن تبت إلى الله سبحانه وتعالى وكانوا يردّون على ذلك بزيادة الحرب ضدي، ففوّضت أمري إلى الله». ووفقا لصحيفة «الشرق الأوسط»، تعتبر «شمس» أول ممثلة تنشر إعلانا مدفوع الأجر، لأنهم حاولوا أن يعرضوا فيلم «حمام الملاطيلي» الذي أخرجه صلاح أبو سيف بعد مرور عامين على اعتزالها. وقالت «شمس»: «عندما علمت بذلك شعرت أنني سوف أنهار، لأنه لم يكن يحق لهم أن يطرحوا الفيلم على أنه جديد، فقال لي زوجي (حسن): (ماذا تريدين أن تفعلي؟)، فأجبته (مهما فعلت، فالصحافة لن تنشر ما أريد، إلا إذا نشرت إعلانا مدفوع الأجر)، وهذا ما حصل فعلا، ونشرت صورة لي وأنا أرتدي الحجاب واستندت في الخبر إلى حديث لرسول الله يقول: (من ضار مسلما ضاره الله ومن شاق مسلما شاقه الله عليه)، لقد التزمت بتاريخ كذا وأتبرأ من أفلامي التي تغضب الله». ووفقا للكتاب، «لازمت شمس مجالس طلب العلم ومجالسة الداعيات الطاهرات، وتتسع بعدها دائرة ثقافتها الدينية والدَّعوية، وهذا ما سهّل عليها القيام بأعباء الدعوة إلى الله حيث كانت تعقد لقاءات دورية للفنانات التائبات والفتيات الملازمات لها في عدد من المساجد، كما كتبت كتابا تحكي فيه قصة هداية الله لها، وأسمَّتْه (رحلتي من الظلمات إلى النور)».