تزامن تواجدي في بعض الإدارات العمومية لمهمات شخصية أو عائلية مع اطلاق وزارة ” الكروج ” ،( وزارة الوظيفة العمومية و تحديث الإدارة) ، للبرنامج التحسيسي و التوعوي الخاص بمحاربة الرشوة والوقاية منها، الداء الذي استعصى على الحكومات المتعاقبة الحد منه أو على الاقل التخفيف من انتشاره في جسم الإدارة المغربية بوجه عام. و ما اثار انتباهي منذ ولوج أول إدارة ، ذاك الملصق الموضوع على أبوابها و بعض حيطانها و في كل مكان تقريبا، ” وياكم من الرشوة ” هو الشعار الذي اتخذته الحكومة شبه الملتحية لتحذير المواطن و الموظف أو الراشي و المرتشي بصفة عامة ، من إعطاء و أخذ الرشوة أو ما بات يصطلح عليها ب ” لقهوة ولا تدويرة ” مقابل مصلحة أو غرض إداري بهدف ذلك وضع الموظف في مكتبه ، لخدمة المواطن و ليكون رهن إشارته في قضاء أغراضه الإدارية . فقلت مع نفسي هذه فرصة لأرى إن كانت الإدارات المغربية تقرأ الجرائد و تتابع خطابات الوزراء و تصريحاتهم ومطالب الأحزاب و الجمعيات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني المطالبة بتخليق الحياة العامة ، وهل نزعت على أعينها تلك النظارات السوداء التي ترتديها في مثل هكذا مناسبات ، لرأيت الملصق الموضوع على أبواب مكاتبها ، أم اتخذته شعارا موسميا كباقي الشعارات المرفوعة سابقا ، ولم تحقق أية نتيجة ، فعادت معها حليمة الى عادتها القديمة بعد انصرام أول يوم من أيام ” الباكور”. و لن أخفي سرا إذا قلت بأني صدمت من جراء المعاملة التي تخص الإدارة العمومية بها روادها. وصدق من قال بأن الإدارة المغربية “بحر” داخله مفقود والخارج منه ” سليما ” كأنه مولود من جديد. البعض ممن يشتغلون بالإدارة العمومية لا يعيرون المواطن الذي لا يعرفونه أو لم يسبق لهم أن تعرفوا عنه أي اهتمام ، ولو بقي تائها ساعات بين الممرات. و حتى إن غامر وتجرأ ودخل أحد المكاتب لطلب مساعدة فمن النادر جدا أن يحصل على توجيه شافي أو نصيحة تجعل المرء يعتز بعروبته وإسلامه ومغربيته ، أو إرشاد كافي يذلل الصعاب ويخفف من المشقة والعذاب. بل الأكثر من ذلك أن سيء الحظ قد يصادف بعض الموظفين الذين يترفعون وهم يخلقون للمواطن متاعب و مقالب جديدة كي يبتزوه ابتزازا ، ويحلبوه حلبا ، ويجعلونه يسقط في شراكهم بطرق ملتوية تمرسوا عليها وباتوا يتقنونها إتقانا ، وكأنهم ” مافيا ” سرية تستغل ” غفلة ” الناس ، وضعفهم ، وقلة الحيلة لديهم . لذلك تعودنا على عدم الاستغراب و لا الاصطدام حين نسمع تلك الحقائق التي تفجرها بعض الهيآت الوطنية و الأجنبية بنشرها تقارير و أرقام حول استفحال ظاهرة الرشوة في مختلف الإدارات ، ولا تساير الشعارات المرفوعة و البرامج المسطرة ، خاصة و أن المغرب يوجد ضمن الدول الأكثر تضررا من الرشوة ، سيما و أن النظام الوطني للنزاهة عجز عن لعب دور حاسم في محاربة هذه الآفة ، وخير مثال هو أن المغرب ما يزال يحتل مرتبة غير مشرفة في لائحة الدول التي تنخرها الرشوة ، ذاك ما تنشره سنويا ترانسبرانسي و غيرها . إن استفحال الرشوة مؤشر على فشل الحكومات المتعاقبة و عجزها عن التصدي لهذه الآفة الخطيرة ، ففي عهد حكومة اليوسفي بدأ الاهتمام الجدي بالموضوع تحت عنوان ” تخليق الحياة العامة ” وتم إصدار ميثاق حسن التدبير لكن توالي الأيام أثبت للمراقبين أن شعار محاربة الرشوة كذبته الوقائع العملية . وحين عينت حكومة جطو، شرعت في تفعيل خطة العمل من أجل تخليق الحياة العامة و محاربة الرشوة ، و هي الخطة التي تعهدت بوضعها بعدما تخلت عن وضع قانون شامل لمحاربة الرشوة و تخليق الحياة العامة و عوضته باتخاذ إجراءات فورية في هذا المجال ، وكان من ضمن الحلول إحداث جهاز مستقل تحت اسم ” الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ” مكلفة بتتبع و تنفيذ السياسات الوقائية و تقييم الإجراءات الكفيلة بمواجهة الرشوة ، و الغريب أن هذه المؤسسة لم تر النور إلا في غشت 2008 رغم أن مرسوم تأسيسها صدر في مارس 2007 . وحتى مجيء حكومة عباس الفاسي ، بقي الحديث عن تفشي الرشوة في أجهزة الدولة و في القطاع الخاص متواصلا ، ولم يبق الموضوع حكرا على الصحافة و المعارضة فقط ، بل صار جزءا من الخطاب الرسمي للدولة . هذا ما اتخذته حكومة عبد الاله بنكيران ، خاصة حزبه العدالة و التنمية عنوانا و شعارا عريضا ، المتمثل في محاربة الفساد بشتى أنواعه وتخليق الحياة العامة ، في مرحلة التنزيل العملي لدستور فاتح يوليوز، و بقانون أزال بعض المخاطر و المخاوف التي كانت في السابق ، حول حماية الشهود و المبلغيين عن جريمة الرشوة ، و بإرادة شعبية عبرت في الكثير من المحطات عن ضرورة التصدي و محاربة هذه الآفة ، إذن أبتحذير ” وياكم من الرشوة ” نستطيع أن نحارب جرثوم خبيث ضارب عروقه في الأعماق و المنتقل من إدارة الى أخرى بسرعة البرق ، أم أن هناك اجراءات عملية و صارمة تتبع هذا التحذير البسيط الذي لا يقدم بل قد يؤخر ، ويلا كان عتقونا به .