( أمامنا متسّع من العمر لكي نعبث بالكلمات كما نقترف دوما في كلّ مرّة وحين. فدعونا اليوم نشهر أقلامنا ملوّحين بها عاليا كما تستّل السيوف مجلجلة من أغمادها عند مَعْمعَة الوغى، فما من أمّة خلت إلا وكان في جيشها فرسان يذودون عنها بحدّ السّيف، فهلا كنّا على غرارهم فرسانا للكلمة لنصرة أمتنا بحدّ القلم! فإذا تنكرت كلماتنا للمعاني في هكذا موقف وتلاعبت أصابعنا بالأقلام مترددة فلا كانت كلماتنا وأقلامنا من الأصل، ومن الأجدر بنا حينها أن نحرق أوراقنا بالبنزين كاملة، ونذبح أقلامنا بالخنجر سرا وعلانية، ونقيم لها مأتما جنائزيا نعلن فيه الحداد ثلاث أرباع العمر والباقي منه أيضا صمت الحداد، وننكّس بعده كلّ راياتنا التي رفعناها من قبل ). “السينمائيون المغمورون الذين أساءوا إلى الرسول الكريم يستعجلون رؤية مشهد حقيقي على شاشة بلازما عملاقة في الواقع، لعمل ليس سينمائيا، عن إشعال فتيل “جهنم” ل”قيامة” في الأرض قبل “قيامة” الله في السماء” 1 – كم من الصدمات الصاعقة علينا امتصاصها بين الحين والآخر كما لو كنّا قطع إسفنج، وكم من الزوابع والأعاصير والعواصف علينا الانحناء لها لتمّر دون حتى أن يسود بعدها الهدوء والسلام، وكم من النيران الضارية التي توقد الحرائق والقرائح في قلوبنا علينا إخمادها رغم ما تبقيه من ندوب وشروخ مستديمة في الأنفس لا تنفع معها حتى أجود البلاسم، وكم من الجراحات المتعفنة علينا تضميدها إلى حدّ أننا صرنا من وفرتها ملفوفين بالضمادات كمومياءات محنطة بلا نبض ولا إحساس، وكم من حرب ضروس علينا عقب وضع أوزارها أن نواسي نساءنا الثكالى ونمسح دموعهن المنهمرة فوق خدودهن مدرارا ونحصي أشلاء شهدائنا عددا، وكم من “تهمة جاهزة” مفصلة على مقاسنا تحاك وراء الستار لتُلفق لنا فيما -نحن- علينا جاهدين إثبات عكسها مع أن لا أحد سوف يرضى عنا ويوّكل لنا محاميا للدفاع عنّا أمام الطغيان، وكم من الطعنات الموجعة التي تصل حدّ العظم علينا شحذ أحبالنا الصوتية جيّدا ليكون صرخنا التلقائي والطبيعي في مستوى الوجع، وكم من الضربات القاضية علينا تلقيها على الدوام والاحتراز منها من كلّ الجهات الأربع للعالم رغم أننا أمّة نزلت إلى الميدان وكلّ سلاحها أرقى الكلمات وليس اللكمات، وكم من المفردات المعبّرة عن كلومنا الغائرة في أعماق وشقوق دواخلنا علينا التنقيب عنها بالقناديل والشموع وسط ركام قواميس “الألسن واللغات” ومعاجم “الإنسانية والسلام” للتعبير من خلالها عن حقنا المشروع في العيش والتعايش بحرية ووئام ولكن حقنا في الحياة بقوة مساطر القانون والأعراف الدولية مصادر ومهضوم من زمان… وكم من أطنان الإضبارات ورزم “البيانات الخارجية الرسمية” علينا إصدارها لخفوت هذا السعار المحموم ومع ذلك فالسعار المذموم هذا، مستمر في الهذيان، وكم من حجج دامغة وقرائن قاطعة علينا كمسلمين تقديمها لهيئات “الذمم” الإنسانية لا أقول هيئات “الأمم”المتحدة إنما الذمم أي نعم، حتى يقرّ العالم أخيرا بأننا مستهدفون… مستهدفون في عقيدتنا التي يخالها الآخرون الفزاعة التي نصبها الأولون فوق كوكبنا الأرض يرهبون بها سائر البشر و”جريمة كونية” يزفون بنا بموجبها إلى غياهب الزنازن وعتمة دهاليز السجون ويضعوننا بسببها داخل قفص الاتهامات ودوائر الظنون، ويرموننا بشأنها بأقذع النعوت والقاذورات والبهتان! ولا صوت واحد معزول من أصوت العقلاء عبر العالم يقر بشرعية طرح سؤال بسيط، ما العيب في “رسالتنا السمحاء” التي جاءت فقط لكي تدعو إلى الايخاء والحب والتسامح والإنسانية والسلام! وما خطيئتنا نحن “متلقيها” حتى تتكالب علينا الأمم بكل صفاقة وشراسة وسادية كما يتداعى الأكلة إلى قصعة الطعام! فوربّ القدس الشريف إنك لصادق يا رسول الله. 2 – فبعد الإساءات المتلاحقة التي مّست بشكل جليّ عقيدة المسلمين ورموزها الأبرار، بحيث لم يعُد يخفى كيدها عن العيان والتي ازدادت حدّتها خلال السنوات الأخيرة باسم مسوغات واهية لا يصدقها حتى من بعقله لوثة ولا حتى من له أعين تنظر ولكن لا ترى وتبصر، تحت تخريجة مستهلكة تكتيكيا حدّ الاهتراء ألا وهي “حرية التعبير” التي التبست مفاهيمها وما عاد أحد يفقه لها معنى أو تعريفا أمام الهجمات الحادة التي تتوالى على المسلمين تحت اليافطة ذاتها، وكأن التعبير يطلق حرّا على عواهنه فقط عندما يتعلق الأمر ب”الإسلام” ومعه تقوم الدنيا ولا تقعد، ولكن مع طابوهات مرعبة من قبيل “الهولوكوست” و”معاداة السامية” و”التمييز العرقي العنصري بأمريكا” و”المعتقلات السرية لأمريكا عبر القارات الخمس” و”البرامج السياسية التدميرية لأمريكا في أفريقيا” و”الإخراج الهوليودي للتنظيم الإرهابي العالمي” و”فضائح الفاتيكان ووجهها المستتر البشع” و”حكومة العالم الخفية” و”التنظيم الماسوني” و”الاحتلال الإسرائيلي” والوقائع الحقيقية ل”قنا وصبرا وشاتيلا” المجزرتين التاريخيتين وغيرهما كثير (بحيث اُقتيد فيها الفلسطينيون بأفواج هائلة إلى حيث يلقون حتفهم كما لو كانوا قطعان خرفان مساقة إلى أقدارها)، فلا أحد عبر العالم بأسره ممّن يتشدقون ب”حرية التعبير” طبعا ستحدوه رغبة في النزول إلى الشارع الذي يقطنه لإشهار لافتة الشجب والتنديد عاليا وعلنا أمام مسمع ومرأى الضمائر الحيّة، تعبيرا عن احتجاجه ضدّ الظلم الواقع بمختلف أوجهه بمقتضاها، فأيّ عاقل يمكنه الإقدام على الخوض في مثل هذه “الملفات المرعبة” وأي مخرج سينمائي مهما علا شأنه أو قلّ، بمقدوره مثلا تصوير وقائع فيلم يدين عبره خرافة “المحرقة اليهودية على أيدي النازيين” التي يعرف العالم بأسره أنها أكبر أكذوبة اخترعها الصهاينة لتحقيق مآرب سياسية كبرى! لا أحد طبعا، لأن تكلفة التجرؤ على النبس بالحقيقة ببنت شفة واحدة وفقط باهظة الثمن، وغالبا ما تكلّف المرء حياته، بينما من قد تسوّل له نفسه الاقتراب من منطقة “الخطر” المزروعة بالألغام، سرعان ما يعي جيّدا ضرورة ابتلاع لسانه قبل أن يجده منشورا على حبل غسيل فوق سطيحة بناية مهجورة. ولعل المفكر الفرنسي روجيه جارودي من أفضل النماذج التي يمكنها سرد تجربته في هذا الباب، وكيف له أن أذاقوه الأمرين، وأدخلوه عذاب “جهنم”، واستأصلوا من جوفه ورم “الكلام” مع سبق الإصرار. ولكن من صيحات الموضة في عصرنا الراهن هو أن تتطاول على الإسلام ورموزه وتتخذهما هزؤا وسخرية لكي تصل إلى ما تصبو إليه من شهرة مجانية. هذا ما يقوله لسان الحال عينه. 3 – في الحقيقة قد يحتار المرء من أيّ منطلق من المُسلّمات ينهج لنفسه الشروع في الحديث بالكيفية التي تخوّل له التقرب نحو المنطق الصحيح ومنه الفكر السليم في ظلّ ديمومة غياب الحقائق المطلقة للأشياء، وأمام هذا الخلط الحاصل إجمالا على مستوى سائر المفاهيم والقيم والموازين والضوابط، إلا أنّ انتهاج أسلوب القراءة الهادئة والرصينة لما بات ينهال على المسلمين من كلّ حدب وصوب من شرور تهّد لها الجبال من شدة وقعها على الأنفس والوجدان، لا يمكن إلا أن تكون مدروسة وممنهجة، لئلا لماذا تنعدم تمظهرات مضمون حرية التعبير في إطار القضايا المذكورة أعلاه! على اعتبار أن القراءة المتأنية خاضعة لما تميله المفاهيم الأكاديمية القائمة على أسس معرفية تأسيسية الخطاب، لم تعد للأسف الشديد الدبلوماسية من حيث أنها أحد أهم الآليات الإجرائية ضمن تقنيات تفاوض المنتظم الدولي الطريقة المثلى القادرة على استيعاب وابتلاع أزمات من هذا العيار ولا المجدية كذلك في تدبيرها في أفق تركيز الجهود الساعية نحو وضع حدّ لها دوليا، عبر استصدار ميثاق أممي يدفع في اتجاه صون حرمة مقدسات مختلف الأطياف العقدية، عبر تجريم ما شأنه المسّ بأيّ من الديانات مهما مثلت الأقلية. 4 – إنّ من يطلّع على مشاهد البانوراما للجزء الموجز من فيلم السيئ الذكر الذي تمّ عرضه على اليوتوب لمدة 14 دقيقة من أصل ساعتين، ما يلبث يتأكد على الفور من أنه ليس شريطا سينمائيا بالمعنى المتعارف عليه فنيا لأنه يتنافي والشروط التي تقوم عليها الأعمال الفنية السمعية البصرية، ناهيك عن الشكليات العديدة التي يفتقدها، ممّا يبدو واضحا أنه تمّ تصويره بغرض هدف معيّن فحسب لا محيد عنه، ألا وهو تعمّد الإساءة (المقصودة) لشخص محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأثناء مشاهدته تتضح الصورة أكثر، خصوصا وأن اللافت فيه هو عدم اعتماده في عموميته على الجوانب التي تقوم عليها صناعة الأفلام السينمائية على كثرتها، فشكليا يمكن لأي كان تسجيل غياب الجانب الجمالي في إطاره كرداءة التصوير وضعف الإخراج والأداء الفاتر لممثلين مغمورين، ومن ناحية مضمونه لا يُلمس إطلاقا كما هو مفروض الجانب الموضوعي والقيمي بقدر ما وجّهّ التركيز بشكل عمدي فجّ يدعو للاستغراب فعلا نحو لغة هجينة وحقيرة أقرب ما تكون إلى لغط الخمارات، دون ما يؤشر قط على أنّنا أمام سيناريو من أصله، بل قُل انه “ارتجاليات عشوائية” لا ناظم ينيطها إلى مرجع، منتمية ومبنية إجمالا على معاجم دلالية موغلة في الذمّ والسبّ والتهكم والاستهزاء والقذارة، ما يزكي الاعتقاد بسوء النيّة المبيتة لهؤلاء القائمين على الفيلم / المهزلة، وسواء كانوا أفرادا أو جهة معينة، ومثلما يعكس خلفيتهم المرضية التي تأسست على كراهية دفينة وأحقاد مبطنة (لا حول الله)، يكشف كذلك بصورة أوضح لا غبار عليها عن أنيابهم المكشرة وعدائهم الصريح الذي يضمرونه للإسلام مرديه ولكل ما يمّت له بصلة، حتى أنهم أزمعوا على محاولة إظهاره في صورة بعبع مخيف ومنفّر، ولكن إخفاقهم يعلن عن نفسه وبكل فداحة فوق ذلك، لأن المتفرج (أيّ متفرج) أولا وقبل كل شيء ليس بتلك الدرجة من الغباء حتى تنطلي عليه ما يروّج له الفيلم/ المسخرة شكلا ومضمونا، إذ سرعان ما يقف على حقيقة سطحية وتفاهة ما يعالجه من بداية المشاهد الأولى، ولعل كوة الضوء في إطار هذه العتمة هي أن الفيلم النكرة يسيء إلى أصحابه أولا وأخيرا، وهذا ما سيستشفه المطلع عليه بالواضح. 5 – عموما إن الذين أساؤوا عمدا لخير البرية لم يعوا جيدا ما الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور ولم يقدروا البتة ما يمكن أيضا أن ينجم عنه “الاعتداء”، لذلك فهم ليسوا على قدر من الإدراك حتى، بأن هذا المليار ونصف المليار الراكد من “الغثاء” يمكنه أن يمرّر من حنجرته على مضض كلّ “الإساءات” التي تعنيه شخصيا ولا حرج، وحتى تلك المتعلقة بعرضه وماله وبنيه إن قدّر، ولكن أن يُمّس في من يفديه بأمّه وأبيه، فمعناه أن المخرجين المعتدين يستعجلون رؤية مشهد حقيقي على شاشة بلازما عملاقة في الواقع، لعمل ليس سينمائيا هذه المرة، عن إضرام فتيل “جهنم ليوم “قيامة” في الأرض قبل “قيامة” الله في السماء، ردّا على الإساءة (والتعبير هنا مجازيّ طبعا، يندرج ضمن ما يعرف عند النحويين بالانزياح اللغوي)، لولا أن الرسول الكريم المبعوث رحمة للعالمين علّم أمته (والعلم نور) ما نزل عليه من ربّه بالحقّ، أن (أعرض عن الجاهلين)، و(إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، “قرآن كريم”. نهايته: من بين جميع الآراء المطروحة من قبل من يسمون أنفسهم أولي أمر المسلمين والنخبويين وعامة الناس، لم أجد رأيا رصينا يحتكم إلى العقل والواقعية والحكمة التي ترفض بالبت والمطلق كلّ تلك الأشكال الاحتجاجية المستعّرة على امتداد الأقطار الإسلامية والعربية من قبيل إحراق مباني التمثيليات الدبلوماسية وما إلى ذلك من سلوكيات عُنفية وحادة هي مبدئيا مرفوضة، ومدانة في الأصل، مهما أفضت بالمرء مواقف حرجة إلى التعبير بحرارة وتوتر ونرفزة، أفضل ممّا ذهبه العالم المصري الجليل محمد متولي الشعراوي (ألف رحمة عليه ونور) في رده على إساءة مماثلة، حين سألوه يوما عمّا إذا كان قد قرأ كتاب “آيات شيطانية” لصاحبه سيء السمعة سلمان رشدي، صمُت قليلا ثمّ ابتسم وأجاب بالنفي، فسألوه كيف لم يقرأ الكتاب وقد شغل العالم! فقرأ عليهم الآية 180 من سورة النساء: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)) صدق الله العظيم.