في أول يوم له بالمعتقل السري درب مولاي الشريف صيف سنة 1975، وجد إدريس بنزكري نفسه سجينا معصوب العينين، مصفد اليدين إلى الوراء. وضعه السجانون بالمعتقل المؤدي إلى باقي الزنازن المكتظة برفاقه. تتدحرج حبات العرق ككرات قطن جافة، تصيبنه بالحكة، وتمتزج رائحتها الكريهة، برائحة هذا المكان السحيق، الذي لا تزوره أشعة الشمس. بهذا المكان تجرح كل أنواع القسوة، دون أن تنال منه أو من عزيمته. 32 سنة بعد ذلك اليوم. وبالضبط في يوم ربيعي من شهر ماي 2007، حُمل إدريس على أكتاف الآلاف من المواطنين من مختلف ربورع المملكة، الذين شيعوه إلى مثواه الأخير بقرية آيت واحي، حيث أطلق بنزكري صرخته الأولى. جنازته المهيبة كانت حدثا سياسيا استثنائيا حضره الأمير مولاي رشيد ومستشارو جلالة الملك والوزير الأول ووزراء حكومة 2007. كلهم قدموا إلى هذه القرية المنسية بفضل بنزكري الذي فضل ظان يدفن بجوار والدته. ويوم الأربعاء 5 مارس 2017، أعلن إدريس اليزمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إطلاق اسم المرحوم ادريس بنزكري، على المعهد الوطني للتكوين في حقوق الانسان بارباط. هذه البادرة جاءت بموافقة من قبل جلالة الملك محمد السادس، وفق إدريس اليزمي. المشهد الأول والثاني والثالث يلخص مسار وطبيعة الشخصية الاستثنائية لإدريس بنزكري، الذي قضى في الزنازن أكثر من ما قضاه في المناصب. ورغم أنه مات في سن مبكرة نسبيا، إلا أنه تمكن من إطلاق مسلسل المصالحة وسياسة طي الصفحات السوداء لما يسمى بسنوات الرصاص. "قد يكون إدريس بنزكري دُفن في قبر متواضع بقريته التي ازداد فيها، لكنه لم يمت لأن المسار الذي أطلقه متواصل،'' يقول الشاعر والمعتقل السابق صلاح الوديع في حق رفيق دربه. صورة من الأرشيف لصلاح الوديع - يسار - رفقة رفيق دربه إدريس بنزكري - يمين- . الطريق نحو معتقل درب مولاي علي الشريف القصة بدأت سنة 1950 بقرية ايت واحي بإقليم الخميسات، حين ازداد إدريس بنزكري في وسط عائلي يغلب عليه طابع البداوة. لم يكن مولده بهيجا، وكانت أسرته الصغيرة تعيش فقرا مدقعا. كما لم يحط مهده بالورود والرياحين، ولم يفتح فمه لتلقي ملاعق الذهب. بل ولد وعاش وسط البساطة والمعاناة لكنه مات عظيما. بعد أن تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية، التحق بالخميسات لمواصلة تعليمه الإعدادي عام 1965. بعدها انتقل إلى الرباط سنة 1975 لإكمال تعليمه الثانوي في ثانوية الحسن الثاني. وهناك احتك بأساتذة الفلسفة والآداب، من مغاربة وفرنسيين، واكتشف مجلة "أنفاس" وتعرف على مؤسسيها الشاعر عبد اللطيف اللعبي والمناضل أبراهام السرفاتي. كانت أحلام هذا المناضل العنيد ذو الجسد النحيل آنذلك تتجاوز شساعة المحيطات، فالعالم كان يغلي مثل قدر على إيقاع المظاهرات الطلابية. وهكذا فتح أبناء جيل بنزكري عيونهم على استقلال اعتبروه «ناقصا». وما لبث أن أعجب الرفاق بصلابته وصمته وقدرته على التنظيم بعدما اختبروه في ثانوية الرباط، فعينوه منسقا جهويا لمنظمة «الى الأمام» الماركسية اللينينية في منطقة الغرب. وعمل بين عامي 1972 و1973 على تنشيط الخلايا السرية بهذه المنطقة بعدما رمت آلة الاعتقال بمعظم الرفاق خلف القضبان. ظل بنزكري يحلم ليالي طويلة بمعية رفاقه بالثورة الشعبية التي ستملأ الأرض عدلا، لكنهم اكتشفوا على حين غرة أن طريق الزنازن كان أقصر من طريق ثورة أشبه بأضغاث أحلام. ففي سنة 1975، سقط في أيدي أجهزة الأمن التي اقتادته إلى المعتقل السري «درب مولاي الشريف». تجربة الحفرة السحيقة كان المرض قد بدأ يتسلل إلى جسد إدريس بنزكري حين تم اقتياده إلى تلك الحفرة السحيقة، التي كان يُطلق عليها المعتقل السري مولاي علي الشريف. وضعه السجانون في ممر المعتقل المؤدي إلى باقي الزنازن المكتظة برفاقه. كان معصوب العينين مصفد اليدين إلى الوراء. لكنه لم يكن يعرف طعم الاستسلام. حتى وهو مكبل اليدين معصوم العينين، بل ظل ثائرا. فقد قيل إنه كان يستغل تواجده في الممر لمراقبة الحراس الذين يتناوبون على حراسة المعتقلين، فرغم أنه كان معصوب العينين إلا أنه كان يعد خطاهم ويخمن عددهم، وما إن يشعر أن الكل غادر المكان حتى يصدر صوتا عبر الاستنشاق العميق، وهي إشارة إلى أن الكل غادر السجن أو في منأى عن مكان تواجدهم، عندها يمكن لكل المعتقلين نزع "البانضة" والتحرك بكل حرية، والتحدث عن ظروف الاعتقال، وعندما يستشعر خطوات حارس في الطريق إليهم، يصدر صوتا أشبه ب "الكح" لتعود الأمور إلى نصابها. ظل بنزكري ورفاقه بالمعتقل السري يتعرضون للضعوط من أجل الإفصاح عن المعلومات التي كانت الشرطة تريدها إلى غاية سنة 1977، حيث تقرر محاكمته. لم يتردد القاضي الذي فحص ملف بن زكري، أثناء محاكمته في أن ينطق بالحكم عليه بخمسة وثلاثين عاماً سجناً نافذاً. ظل الرجل صامتا بعد سماعه للحكم بينما طفق رفاقه يصيحون في وجه القاضي! فأضاف لكل واحد منهم سنتين سجنا. وهكذا كانت حياة جديدة في انتظار بن زكري داخل السجن المركزي بالقنيطرة. وداخل السجن، خاض هو ورفاقه معارك مشهودة من أبرزها الإضراب عن الطعام لانتزاع حقوقهم داخل الاعتقال، وهو ما مكن إدريس من متابعة دراساته العليا. بدأت الخيبة تأكل إدريس داخل السجن، فانزوى بهدوء في مكان قصيٍّ داخل الزنزانة، وصار يستغرق جل وقته في التهام الكتب بشراهة كبيرة. لاحظ الرفاق عزلته ولم يستطيعوا القبض على ما يعج في خلده. أمسك بمنجل المثابرة وراح يحصد الشواهد التعليمية. ظفر بدبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات والآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط عام 1983 ببحث حول اللغة الأمازيغية، ثم اخذ دبلوماً للدراسات المعمقة في اللسانيات من جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا عام 1987. طل هذه الشواهد حصل عليها من داخل زنزانته. بداية مشرقة بعد نهاية مريرة لم يقض بنزكري عقوبته السجنية كاملة، حيث حصل على العفو الملكي سنة 1991. وفضل بعد خروجه من السجن الاستمرار في النضال الحقوقي، حيث التحق فور خروجه من السجن بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، حيث عمل بها بادئ الأمر مديرا تنفيذيا، قبل أن يتقلد مسؤولية نائب رئيسها سنة 1996. كان يعمل ساعات طويلة دون أكل، مكتفيا بالقهوة والسجائر. لم تكن علاقته دوما جيدة بالطعام الذي يعوضه بالتدخين بشراهة. ومن جديد لمس فيه الرفاق، الذين اشتعلت رؤوسهم شيبا وبلغوا من العمر أشده صفات القيادة، فدفعوه إلى الصفوف الأمامية في أكثر من مناسبة. وبدوره لم يبخل بجهده في العمل الحقوقي محافظا على إصراره القديم في التحصيل العلمي حتى حصل عام 1997 على شهادة الماجستير في القانون الدولي، (تخصص حقوق الإنسان)، من جامعة سيكس البريطانية. هبت رياح الانفتاح الحقوقي مع اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش سنة 1999. كانت البلاد تعيش زمن التناوب التوافقي. فكر بنزكري رفقة رفاقه في صيغة للضغط على الدولة للكشف عن الحقيقة والاعتراف بالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في حق جيل بأكمله، فأسسوا منتدى الحقيقة والإنصاف عام 1999، ولم يجدوا، مرة أخرى، أحسن من بن زكري ليكون رئيسا له. هذا المنتدى وضع اللبنات الأولى التي قام عليها مسلسل العدالة الانتقالية بالمملكة المغربية. وساهم بنزكري بقسط وافر في صياغة الوثيقة التأسيسية والنظام الأساسي للمنتدى، حيث اعتمدهما المؤتمر يوم 28 يناير 1999 وأصبحا من وثائقه الأساسية. ومن روح هذا العمل التأسيسي، جاء تعيين جلالة الملك محمد السادس بنزكري سنة 2003 من أجل قيادة هيئة الإنصاف والمصالحة التي أنيطت بها مهمة تصفية ملفات الانتهاكات في الفترة من 1956 إلى1999. فبدأ البحث عن الحقيقة بدون ذكر أسماء الجلادين خلال جلسات استماع أمام شاشة التلفزيون. وأنهى مهمته التي شع بريقها في أركان الكون الأربعة، فعينه جلالة الملك رئيسا للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي ظل يحضر اجتماعاته حتى في أصعب فترات مرضه. وفي ردهات المجلس كان الجميع يسأل عن صحة الرئيس الذي كان يخوض معركته الأخيرة ضد المرض. أسرَّ بن زكري لأحد أصدقائه ذات يوم أنه يحلم، بعد انتهاء مهامه، بأن يعود إلى قرية آيت أوحي التي ولد فيها من أجل قضاء بقية عمره في منزل والده بعدما جرت مياه كثيرة تحت الجسر، متأملا في مساره. الأمير مولاي رشيد في جنازة الراحل إدريس بنزكري وفي سنة ماي 2007، عاد جثمان بنزكري في موكب وداع أخير إلى مسقط رأسه بعدما بدأ حياته بالمعاناة السياسية وأنهاها بمعاناة طويلة مع المرض. صحيح أن ولادته لم تكن حفلا بهيجا في قرية أيت واحي، لكن وفاته جعلت هذه القرية المنسية تعيش حدثا استثنائيا، حيث عرفت جنازته رئيس ووزراء حكومة 2007، يتقدمهم الأمير مولاي رشيد. بل أكثر من ذلك، أمر جلالة الملك محمد السادس بإقامة مشاريع تنموية في منطقة آيت واحي تكريما لروح الفقيد. جنازة الراحل إدريس بنزكري بمسقط رأسه