طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :21
في الصباح الباكر.. توقفت الحافلة في الحدود الليبية المصرية ..الجمارك الليبية كانت موجودة في ذلك المكان .. بناية شبه صالحة وغير مهدمة كسابقتها في الحدود التونسية الليبية ..فمن هذه الجهة لاتسري معاهدة المغرب العربي لتدمير الجمارك التي ابرمها معمر القذافي مع نفسه ..نزلنا من الحافلة و قمنا بالاصطفاف امام مدخل غرفة تشبه مرحاضا عموميا كثيرا .. في الطرف الثاني للغرفة هناك شباك صغير لاستلام الجوازات … صاحب الحافلة تكلف بجمع كل جوازات الركاب ماعدا جوازي.. رفض تسلمه ونهرني قائلا : انت قدم جوازك بنفسك .. أخذت مكاني في الطابور مع المسافرين الاخرين و لما ادركت مدخل المكتب .. أعطيت الضابط الجمركي جواز سفري.. شباب غفل كسابقيه من ضباط الشرطة .. يتشبثون جميعهم بالشعر المنفوش تيمنا بقائد الثورة الليبية معمر القذافي … أعطيته الجواز وانا أقف باحترام ..نظر الى الصورة في الجواز ثم رفع بصره نحوي يتفحصني..ألقى بالجواز جانبا و بدأ يستفسر عن سبب سفري الى مصر برا..فالأمر بالنسبة له في غاية الغرابة . فالمسافة بعيدة جدا حاولت قدر المستطاع أن أعطي تبريرات لذلك ومن ضمن ماقلته له : الرغبة في اكتشاف العالم العربي.. لم يهتم بما كنت أقوله ..قام من مكانه واخذ الجواز معه وسلمه لجمركي اخر كان متواجدا في المكتب بجانبه.. نظر الي وطلب مني احضار أمتعتي من الحافلة ..توجهت نحو صاحب الحافلة وطلبت منه ذلك ..ذهب مكرها وفتح محفظة الحافلة وألقى بحقيبتي على الارض ..لم أعقب بتاتا على هكذا سلوك بل حملت حقيبتي وتوجهت نحو الجمركي.. لما دخلت المكتب ذهب بي الى ركن فارغ في نفس المكتب.. وأزاح بقدمه سجادة كانت منشورة للصلاة هناك ..و أمرني بافراغ كل محتويات الحقيبة على الارض .. لم أفكر كثيرا فعلت ما أمرني به رغم أن هذا التصرف حز في نفسي كثيرا .. بدأ يتفحص كل محتويات الحقيبة بدقة متناهية .. كان يحمل كل الاشياء بدون تمييز ويسأل عنها .. وأنا كنت اجيب على كل أسئلته باحترام ممزوج بالخوف ...بعد برهة من الزمن ٬امتدت يده الى كيس بلاستيكي اسود وبداخله كيس بلاستيكي اخر أبيض وقد وضعت فيه قطعا من التمر المعجون و الممزوج بالطحين واللوز.. كانت امي قد أعدته لي خصيصا للرحلة .. حمل قطعة بين أصابعه.. نظر اليها و رفع رأسه نحوي و تأملني جيدا بنظرات خبيثة بما يكفي .. وقال لي بهدوء تام و بلكنته الليبية : شنو هدا يا مخلوق..ممممم.. جاوبني يا مخلوق ؟ بهدوء اعصاب انا ايضا قلت له : هذا تمر ياسيدي ... اعتدل في وقفته واستدعى زميلا اخر له وقال له : دير بالك مع هذا المخلوق تحفظ علي زميله وأجلسني في مقعد .. في حين خرج هو من مكان التفتيش وهو يحمل معه ذلك الكيس من التمر .. صاحب الحافلة هناك من بعيد يراقب الحدث باهتمام بالغ .. غاب الدركي اكثر من ربع ساعة ثم عاد مع اثنين من زملائه..أمسكني احدهم من ذراعى الايمن .. والأخر جمع حاجياتي التي كانت مبعثرة على الارض بشكل مستفز ..و قاداني بقوة الى غرفة اخرى مهجورة ..جدرانها سواد بفعل الاوساخ العالقة .. وبابها الخشبي مهترئ تميزه كوة صغيرة مربعة في أعلاه.. لا أثاث فيها سوى مقعد خشبي طويل وحصير من سعف النخيل ملفوف وموضوع جانبا.. يبدو انه معد لنوم احدهم هنا ليلا .. لم اكن خائفا بالمرة كنت واثقا من موقفي..واثقا من تمر أمي وخلطتها المقوية .. لكني كنت أخشى من عواقب الجهل والظلم والطغيان.. بين الفينة والأخرى كنت أرمق ، صاحب الحافلة من الكوة العلوية وهو يتحدث الى الجمركي الذي كان يقف امام الباب ..كان يريد اقناعه بضرورة المغادرة والاستغناء عني في الجمارك .. الجمركي كان يرفض طلبه ويدعوه الى الانتظار.. فصوتهما كان يصلني بوضوح وهو يقول له : سير لزم بلاصتك حتى اقوليك الشاف شنو تعمل .. دخل الجمركي الذي افتعل المشكل منذ البداية الى الغرفة وهو يحمل الكيس من جديد ودعاني لمرافقته.. وحين عدنا الى مكان التفتيش العمومي، منحني أمتعتي.. وأخرج قطعة من التمر من الكيس ونظر اليها فوق كفه وقال : والله ماتقول غير زطلة … شكون عملك هاد الحشوة ؟ قلت له : أمي ياسيدي ..فهذه حشوة شائعة في الجنوب الشرقي للمغرب.. فهي تقي من الجوع والعطش وتعتبر أحسن زاد للسفر … تأمل في قطعة التمر جيدا وقال لي : تسمح لي ناخد وحدة ؟.. قلت له : بكل فرح يا سيدي ...شكرني وختم جوازي وأمرني بالانصراف.. وأنا في الطريق الى الحافلة سرى في جسدي احساس بالفرج…لما أعدت الحقيبة الى محفظة الحافلة ٬كان كل الركاب يتابعون تطورات القضية من خلال نوافذ الاغاثة .. صاحب الحافلة فقط هو من كان يقف أمام الباب الامامي وهو في قمة غليانه .. ما ان صعدت الى الحافلة حتى بدأ يرعد ويزبد .. قال لي : خش يا ابن الشرموطة … طأطأت راسي مستسلما لكل ما قال .. لاننى للاسف لم أكن أعلم معنى تلك الشتيمة آنذاك .. أخذت مكاني قرب رمضان و انطلقت الحافلة من جديد.. لكن هذه المرة بدون موسيقى وبدون ام كلثوم .. كنت أنا حديث الساعة .. صاحب الحافلة بصوت مسموع جدا كان يحكي أطوار الحكاية للجميع.. وكان يتمنى لو لم يصادفني في ذلك اليوم الاسود .. رمضان بدأ يستفسر عن حكاية الحشيش الذي تم ضبطه معي في مكتب الجمارك.. التفت نحوه وقلت له غاضبا : اي حشيش هذا الذي ضبط معي ..؟ رد بصوت خافت : لقد اخبرنا صاحب الحافلة انه تم اعتقالك.. لان الجمارك ضبطت معك كيسا بلاستيكيا من الحشيش المغربي . ضحكت من قوله.. ضحك يشبه البكاء ..و وقفت وطلبت انتباه الجميع وقلت بلغة عربية فصحى وبصوت مبحوح فيه حشرجة من الرغبة في البكاء : رفعا لكل لبس .. اعتذر منكم جميعا عن التأخير في الرحلة .. لكن الامر لم يكن بيدي.. فالجمارك هي من حجزت بالخطأ على حبات تمر معجون بالطحين واللوز كان بحوزتي ..ولما تيقنت على انه لايحتوي حشيشا افرجت عني والحمد لله .. فأرجو المعذرة . عدت الى مكاني.. وعم السكوت المكان ..حتى صاحب الحافلة لم ينبس ببنت شفة ..شعر بخجل لكذبه على الركاب ..ربما كان قد اتخذها ذريعة ليتركني هناك … بعد هنيهة عاد صوت ام كلثوم ليصدح كالعادة … احدهم كان جالسا قرب مدخل الحافلة٬ قام من مكانه وقطع مسافة الرواق بكامله و تقدم نحوي وقال لي بلهجة مصرية صعيدية : يا مغربي ما تديني شوية من التمر ابو حشيش اللي معاك … ضحكت لما قال هذا الرجل وقلت له : لم يتبق لي سوى أربع قطع وآنا في حاجة ماسة اليها … نهره رمضان بشدة وطلب منه العودة الى مكانه .. عاد الرجل الى مكانه ولسان حاله يقول : وحدة بس والله ما كانتش تفرق معاه …. في الجمارك المصرية لم نأخذ وقتا طويلا .. كان الامر روتينيا وعاديا بالمرة .. ونحن على مشارف منطقة السلوم - وهي عتبة الدخول الى أرض مصر-، ومن خلال النافذة ٬ بدأت اشعر بتغيير مفاجئ في التاريخ والجغرافيا.. حيث تحول هدوء الصحراء الى ضجيج وحركة.. وارتفعت الكثافة السكانية و ارتفع عدد السيارات وعدد الحيوانات.. وظهرت الكثير من الغربان التي ترعى قوتها في المزابل ..ان شئت قل : دبت الحياة في الأرض... منذ ان دخلنا أرض الكنانة والحافلة لم تتوقف عن الوقوف المتكرر .. وقفت في كل القرى الممتدة على طول طريق مرسى مطروح تقريبا ..الركاب يستعطفون صاحب الحافلة ليتوقف في اماكن قراهم .. هكذا أفرغت الحافلة تقريبا كل ركابها ..فما ان دخلنا الى الاسكندرية حتى كانت الحافلة فارغة .. رمضان كان من المفروض ان يكمل الطريق معنا الى القاهرة حيث نهاية الرحلة ٬ لكنه غير برنامجه في اخر لحظة وقرر المبيت عند خالته في قرية على الطريق اسمها الشيخ مبروك... قبل نزوله منحني عنوانه ورقم هاتف الدكان المجاور لسكنه .. في الحافلة لم يتبق سوانا نحن الاثنين : انا والرجل الصعيدي الذي طلب مني قطعة تمر ابو حشيش ..صاحب الحافلة لم يناقش معنا الموضوع٬قرر بنفسه عدم استكمال الطريق نحو القاهرة ..أوصلنا الى محطة سيارة الاجرة.. وطلب منا النزول واستكمال الطريق بمفردنا الى القاهرة وذلك بحجة انه سيبيت الليلة في الاسكندرية .. احتج الصعيدي بشدة وشكى ضيق ذات اليد ..لم يدعه صاحب الحافلة يكمل شكواه حتى دس في يده جنيهات ثمنا لسيارة الاجرة .. كنت اراقبهما من بعيد. ولم اعر للأمر اهتماما .. نزلت من الحافلة بدون ان يطلب مني ذلك .. نزل المساعد ومنحني امتعتي.. ودعتهما وتوجهت مباشرة الى بائع خضر وجدته في المكان ..استأذنته في السؤال وسمح لي بذلك قلت له : ياسيدي كم هو ثمن التذكرة في سيارة الاجرة الى القاهرة ؟ ..قلت ذلك وأنا اشير الى موقف السيارات … استغرب بائع الخضر من الامر وقال لي بالمصري : المحطة اهو ادامك روح اسأل … قلت له مرة ثانية بكلام مصري مكسر : ماعليش والنبي ياحاج .. لو سمحت انا عايز المعلومة بس ..انا مش حسافر اليوم … قال لي : اه.. قول كده ...خمسة عشر جنيها ... قلت له : اين يمكن لي ان اغير عملة ليبية ؟ قال لي : انا اغير لك عملة... حددنا السعر وأعطاني المقابل.. شكرته واشتريت منه كيلو غراما من الموز وانصرفت .. توجهت مباشرة نحو موقف سيارة الاجرة.. سألت أحدهم عن السيارة المتوجهة الى القاهرة..فأشار لي الى موقعها ..عندما وصلت اليها لم اتحدث مع السائق ابدا ..اعطيته أمتعتي كاملة حيث قام بوضعها في محفظة السيارة.. فتحت محفظتي اليدوية الملفوفة حول بطني ومنحته خمسة عشر جنيها ...نظر الي ولم ينبس ببنت شفة .. شعرت من خلال ملامحه أنه لو سألت عن ثمن الرحلة لجعلها مضاعفة .. ولو علم اني مغربي لطلب مني دفع ثمن جميع تذاكر الركاب دفعة واحدة .. صعدت الى السيارة وأخذت المكان الامامي وانتظرت ...بعد ساعة تقريبا حضر جميع الركاب واخد كل واحد مكانه..كان السائق منشغلا منذ آن رأيته بحديث مع صديق له. يبدو انهما لم يلتقيا منذ مدة .. وحين أدار محرك السيارة ، ولكي يستكمل الحديث مع صديقه ، طلب منه أن يأتي معنا الى القاهرة ليؤنسه في طريق العودة .. ابتسمت وتساءلت مع نفسي عن المكان الذي يمكن ان يجلس فيه هذا الصديق. فليس هناك اي مقعد شاغر .. بدون تردد قبل صديقه ذلك العرض ..ترجل السائق من مقعده و توجه به الى محفظة السيارة الخلفية ..فتحها وطلب منه التمدد فوق الأمتعة.. بدون تردد تمدد الرجل فوقها .. وحينما حاول السائق غلق الباب اصطدم وجه صديقه مباشرة بالزجاج الخلفي للسيارة فصرخ الرجل.. فضولا مني نزلت وتوجهت الى الزجاج الخلفي للسيارة لأشاهد ذلك المنظر العجيب ...رجل ممدد على جنبه الايمن ..جسمه بالكاد يظهر بعضه .. انفه معلق في الهواء ونصف وجهه الايمن مضغوط بقوة مع زجاج باب محفظة السيارة.. نظرت للسائق وقلت له : كم ساعة نحتاج لكي نصل الى القاهرة ؟ قال لي : تقريبا خمس ساعات ...قلت له: خمس ساعة !!! هل سيصمد هذا الانسان وهو على هذه الحالة ؟.. قال لي بالمصري : لاتقلق دا افوت في الحديد .. لم يجد الرجل "المضغوط وجهه" ، مساحة كافية ليتمدد فمه ضاحكا .. لكنه اكتفى باصدار صوت غريب يشبه الضحك والبكاء معا … ضحك جميع الركاب الاخرين و انطلقنا.. سرعة السيارة كانت عالية جدا بحيث كنا نتجاوز كل السيارات الاخرى على الطريق وبسرعة جنونية ..كانت اغنية حسن الاسمر "كتاب حياتي ياعين.. مشفتش زايو كتاب .. الفرح في سطرين والباقي كل عذاب " … من بين اهم الاغاني التي سطع نجمها انذاك ...كان السائق يردد مع حسن الاسمر كل الكلمات وكل الجمل.. مرة بأسى ومرة اخرى بفرح... وفي بعض الاحيان يتهور كثيرا و يترك مقود السيارة ويرقص مع ايقاع الموسيقى .. صديقه "المضغوط وجهه "في خلف السيارة ٬ يرد عليه وعلى أسئلته بصعوبة كبيرة .. وفي غالب الاحيان لم نكن نفهم شيئا مما يقوله ..السرعة كانت تتزايد مع تزايد الحماس مع الاغنية .. لا أخفيكم سرا أني نطقت بالشهادتين أكثر من مرة .. لم يستطع احد من الركاب ان يطلب منه خفظ سرعته .. استسلمنا جميعا الى مصيرنا المجهول .. نقط التفتيش على طول الطريق كانت بعدد حبات الارز ..ولباس الشرطة الابيض يختلف لونه من مكان الى اخر.. حيث يختلط العرق بالتراب والريح ودخان السيارات فتختلف الالوان حسب المواقع ... كان السائق يتوقف بمفرده في كل نقطة تفتيش للشرطة .. و بمنبه السيارة كان يدعو الشرطي الواقف بعيدا اليه..ثم يدس في يده 50 قرشا فقط ( وهو مايعادل عشرين فرنكا مغربية ) وننطلق من جديد…هكذا كان الامر على طول الرحلة .. وهكذا كان يعود حسن الاسمر من جديد لتأوهاته .. وتعود السيارة من جديد ايضا لتسابق الريح .. لايزال صوت حسن الاسمر يتردد في ذاكرتي ولايزال الخوف يتملكني لحد الان كلما ركبت سيارة أجرة . بعد منتصف الليل تقريبا دخلنا القاهرة ... نجونا اخيرا من موت محقق .. اختار السائق له مكانا جانبيا مظلما غير المحطة الرسمية ..وطلب منا النزول ..بحركة سريعة القى لنا بامتعتنا الى خارج السيارة واخرج صديقه -الذي ظل على قيد الحياة بمعجزة - وأجلسه بقربه وانطلقا كالسهم في عوتهما الى الاسكندرية .. اخذ كل واحد منا امتعته واتجه في اتجاه معين كان يعرفه سلفا .. الا أنا.. بقيت واقفا في هذا الشارع المظلم الا من بعض الاضواء الباهتة التي لاتكاد ترى من كثرة الغبار.. بقيت واقفا لمدة طويلة احاول فيها ان استرد أنفاسي ..ثم حملت امتعتي الثقيلة جدا و وضعتها فوق ظهري كالعادة و بدأت اسير ...أسير ...أسير ...لم اكن اعرف وجهتي نهائيا..كل ما كنت أريده آنذاك هو ا الخروج من ذلك المكان المظلم..مشيت لمسافة طويلة جدا في تلك الليلة .. الى ان بدأت اقترب من مكان وقد تجمهر فيه الكثير من الناس ..سالت أحدهم عنه فقال لي انه ميدان العتبة ...مكان شاسع تتوسطه حديقة كبيرة ..حينما وصلت الى الحديقة اخذت مكانا هامشيا ووضعت فيه امتعتي وجلست .. أخرجت ماتبقى من الموز الذي اشتريته في الاسكندرية ..كان ذلك الموز المسكين يرتجف من شدة الحرارة ..أصبح رخوا جدا .. وحتى لا اتركه يتعذب أكلته أكلا رحيما…واستسلمت للشرود والتيه .. لم اكن اعرف ماهي الخطوة القادمة ..ها أنذا في القاهرة في الثانية صباحا ..مالعمل اذن ...لا أعرف … البقية غدا.. محبتي