لم يكن الذين رفعوا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بتونس ومصر يعرفون خلفيات الصفقات الجيوسياسية، ولم يكونوا يعرفون أن الذي سيستثمر اللحظة ليس "الثوار" ولكن من كان يصفهم بأقذع النعوت، ولم يكونوا يعرفون أنه مع سقوط النظام، في إطار الصفقة دائما، ستسقط معه الدولة، أو أن الذين سينطون كالضفادع فوق كرسي الحكم سيخربون الدولة أولا. لم يكن هؤلاء يعرفون أن من سيمسك بزمام الدولة هي الأحزاب والتيارات والجماعات التي لا تؤمن بالدولة، وكان أول عمل قامت به هو إسقاط الدولة، حتى يتسنى بناء دولة الفتوات والمليشيات والمجاهدين. كان الهدف من الحراك الشعبي هو في البداية هو الضغط من أجل تجاوز الأوضاع التي يعيشونها، فجاء من أوحى بالعبارة الرنانة "الشعب يريد إسقاط النظام"، وضمخها بعبارة أكثر جمالا ألا وهي "الربيع العربي"، وهلم تصنيفات مثل ثورة الياسمين وغيرها، في وقت كانت الثورات تعني استمرار الواقع على ما كان عليه زيادة على إحلال الفوضى. كانت أعناق "الثوار" تشرئب لبناء مجتمع بديل، وبناء نظام بديل. لكن النتيجة كانت مرعبة، لقد تمت إزالة أنظمة ديكتاتورية لكن البديل لم يكن نظاما ديمقراطيا، ولكن نظام هتليري جاء عن طريق الديمقراطية، وبدل إلغاء النظام السابق تم استبداله بنظام شبيه له مع فائض من الكراهية للمؤسسات أي إسقاط الدولة. ومن ثمار الربيع العربي فوضى في مصر وتونس، ففي أرض الكنانة بلغت الديون سقفا خياليا وأغلقت آلاف المقاولات أبوابها نتيجة الفوضى، وأصبحت مليشيات الإخوان هي التي تمتلك الشارع، تقتل وتسحل وتضرب وتفرض لغتها وقانونها، في حين أصبحت قوى الأمن عاجزة عن فعل شيء في غياب إرادة سياسية لمحمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة من أجل الحفاظ على مؤسسات الدولة. ومن ثمار الربيع العربي شرعنة القتل وإطلاق سراح القتلة والمجرمين باسم الدين والمهووسين بالحور العين مقابل التدمير المادي والمعنوي للبشر. قد لا يفهم البعض التعقيدات التي تعرفها مصر وتونس في قضية بناء المؤسسات. لكن الموضوع غاية في الصعوبة لأن من جاء بنية هدم الدولة ليس بمستطاعه بناؤها. فلو أن الذين سطوا على الدولة تمهلوا قليلا لسارت الأمور بشكل جيد وتم التوافق على حكومات انتقالية تدير البلاد وتكتب الدستور وتصيغ القوانين قبل الانتخابات، لكن فرحة الإسلاميين كانت غامرة لأنهم لم يكونوا يحلمون بربع هذه اللحظة فانقضوا على الدولة ينهشونها. وها هي تونس تعود إلى المربع الصفر، وتنتهي قصة المجلس التأسيسي إلى دمار شامل، ويتم الحديث حاليا عن توسيع التحالف وغيره من الموضوعات، لكن دعاة التأسيسية نفضوا أيديهم من جدواها، وكان من بين ظهرانينا من طالب بمجلس تأسيسي وقد أصبح اليوم وزيرا، لكنه بلع لسانه بهذا الخصوص، ربما قد يكون اكتشف متأخرا أن المجالس التأسيسية في تاريخ العالم معدودة على رؤوس الأصابع. ومن سوء حظ الوزير أن تونس لم تدخل في عداد المجالس التأسيسية بعد أن تحول مجلسها إلى أداة للتسلط.