تُثار من حين لآخر على أعمدة الجرائد الوطنية مسألة الحدود بين المغرب والجزائر على خلفية بعض الأحداث التي تقع على الشريط الحدودي ، باعتبار تلك الأحداث ناتجة عن عدم رسم الحدود بين البلدين ، ويُستفاد منها أيضا أن رسم خط الحدود لم يجد طريقه بعدُ إلى الحل ، مما يترتب عنه غموض في بعض الأحيان ، وهذا أمرٌ مخالف لواقع الحال ، ويكشف عن عدم الاطلاع على المعاهدة التي أبرمت بين البلدين يوم 15 يونيو 1972، وتم تبادل وثائق التصديق عليها سنة 1989. كما أن أغلب عموم المواطنين يجهلون أن رسم خط الحدود بين البلديْن قد حُسم أمرُه بشكل نهائي كما نص على ذلك الفصل السابع من المعاهدة المذكورة ،والتي صدرت في الجريدة الرسمية المغربية سنة 1992 ، وقد تضمّن الفصل المذكور ما يلي : "اتفق الطرفان المتعاقدان الساميان على أن مُقتضيات هذه المعاهدة تسوّي نهائيا قضايا الحدود بين المغرب والجزائر" .غير أن غالبية سكان الشريط الحدودي يجهلون هذا الواقع المترتب عن رسم خط الحدود بين المغرب والجزائر بناء على اتفاق مصادق عليه من طرف البلديْن. وجدير بالتذكير أن الحكومة الجزائرية كانت سبّاقة إلى المصادقة على المعاهدة الخاصة برسم الحدود مع المغرب ، حيث صدر أمرٌ رئاسي ( Ordonnance ( يوم 17 مايو 1973 يقضي بالمصادقة على المعاهدة المذكورة ويأمر بنشرها في الجريدة الرسمية الجزائرية، وهو ما تم في العدد 48 المؤرخ في 15 يونيو 1973 ، وقد جاء فيها ما يلي : " إن رئيس الحكومة، رئيس مجلس الوزراء، بناء على تقرير وزير الشؤون الخارجية، وبمقتضى الأمريْن رقم 65 182 ورقم 70 53 ...، وبناء على التصريح الجزائري المغربي الصادر بالرباط في 3 جمادى الأولى عام 1392 الموافق 15 يونيو 1972 ، وبعد الاطلاع على المعاهدة المتعلقة بخط الحدود القائمة بين الدولة المغربية والدولة الجزائرية والموقعة بالرباط في 3 جمادى الأولى عام 1392 الموافق 15 يونيو سنة 1972 . يأمر بما يلي : المادة الأولى : يصادق على المعاهدة المتعلقة بخط الحدود القائمة بين الدولة المغربية والدولة الجزائرية والموقعة بالرباط في 3 جمادى الأولى عام 1392 الموافق 15 يونيو سنة 1972 ،وذلك وفقا للخرائط من رقم 1 إلى رقم 15 المُرفقة بهذه المعاهدة ، وتشكل جزءً لا يتجزأ منها ، وتنشر هذه المعاهدة في الجريدة الرسمية الجزائرية " . وقد ذُيّل هذا الأمر بتوقيع الرئيس هوّاري بومدين . وقد نُشر في نفس التاريخ وفي نفس العدد من الجريدة الرسمية الجزائريو نصّ التصريح المغربي الجزائري الصادر بالرباط يوم 15 يونيو 1972 ، والذي يؤكد على نهج سياسة حسن الجوار بين البلديْن. ما يشدّ الانتباه هو توقيت تاريخ نشر المعاهدة من الجانب الجزائري( 15 يونيو 1973)، إذ يصادف ذكرى مرور سنة على التوقيع عليها بالأحرف الأولى بمدينة الرباط . إلا أنها ظلت مُجمّدة بسبب تماطل المغرب في المصادقة عليها، حيث ينصّ الفصل الثامن منها على " أن يجري العمل بهذه المعاهدة عند تبادل وثائق المصادقة " ،وهو ما لم يتحقق إلا في يوم 14 مايو من سنة 1989 . وبعد مرور ثلاث سنوات صدر ظهير شريف بتاريخ 22 يونيو 1992 يأمر بنشر المعاهدة في الجريدة الرسمية المغربية . يُفسَّر الموقف المغربي بعدة فرضيات بالنظر إلى التسرّع الذي أبان عنه الطرف الجزائري في المصادقة على المعاهدة سنة 1973، إلى جانب معاهدة أخرى خاصة بإنشاء شركة مختلطة لاستغلال معدن الحديد بموقع غارة جبيلات قرب تندوف ( انظر الجريدة الرسمية الجزائرية عدد 48 الصادر يوم 15 يونيو 1973) . قد يعود سبب تأخير المصادقة من الجانب المغربي إلى الشعور بالحيف ، وهو ما كشفت عنه مذكرات بعض رجال السياسة المقرّبين من القصر ( على سبيل المثال عبد الهادي بوطالب في مذكراته : نصف قرن في السياسة ) ، إذ ضُمّت إلى التراب الجزائري مناطق ومواقع مشهود بمغربيتها عبر الحقب التاريخية ، وتأتي في صدارتها مدينة تندوف والقنادسة وبشار وبني ونّيف بمُحاذاة واحة فكيك...، ومن جانب آخر كشفت مذكرات بعض رجال السياسة الجزائريين أن الرئيس هوّاري بومدين أوْفد إلى الملك الحسن الثاني في شهر مارس 1975 مبعوثا خاصا يستعجله من أجل المصادقة على المعاهدة المذكورة ، وكشف هذا المبعوث أن العاهل المغربي كان يخشى أن يثير ذلك انقسامات داخلية ، خاصة إذا ما طرحت المعاهدة أمام البرلمان المغربي من أجل المصادقة عليها، ورغم ذلك تعهّد بالعمل على التصديق عليها .( انظر "مذكرات جزائري" للطالب الإبراهيمي الجزء الثاني ) . أما استعجال الجانب الجزائري في الكشف عن المعاهدة والضغط على المغرب من أجل إخراجها إلى حيز التطبيق ، فيعود بالأساس إلى إدراك حكام الجزائر أنهم حققوا مكسبا هاما ، فتطلعوا إلى إنهاء الإجراءات المسْطرية لضمان ما كانوا يطمحون إليه . وهناك تأويل آخر لهذا الاستعجال الجزائري ، ويكمن وراءه انزعاجٌ من التقارب الذي تحقق بين المغرب وموريتانيا عقب تفاهم الدولتين بشأن قضية الصحراء المغربية المحتلة آنذاك ، فاستغلت الجزائر بداية حركة مسلحة من طرف بعض الأهالي سنة 1973 ، فسارعت إلى احتضانهم ، وفي الوقت ذاته صادقت على المعاهدة الخاصة بالحدود وعملت على نشرها على وجه السرعة ، وكل ذلك من أجل التظاهر بأن لا مطمح لها في الصحراء المغربية . هذا هو السياق الذي قد يفسر تسرّع الحكومة الجزائرية في التصديق على المعاهدة المتعلقة بالحدود. وفعلا تمت المصادقة على المعاهدة سنة 1989 من الجانب المغربي دون أن تمرّ عبر المؤسسة التشريعية المخولة بذلك ، وهذا ما يطرح شرعية هذه المصادقة ، وعلى الفوْر تم تبادل وثائق التصديق بالجزائر يوم 14 مايو 1989. غير أن المعاهدة المذكورة لم تنشر في الجريدة الرسمية المغربية إلا في سنة 1992 أي بعد مرور عشرين سنة على توقيعها بالرباط سنة 1972 وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن أسباب هذا التأخير ، هناك من يربط ذلك باسترجاع الصحراء المغربية التي خلطت كل الأوراق بين المغرب والجزائر ، هذا فضلا عن مصادفة تاريخ المصادقة مع تأسيس اتحاد المغرب العربي . ورغم هذه الفرضيات تبقى الأمور غامضة وغير محسومة في ظل غياب الوثائق التي قد تكشف خفايا التوافق الذي تم بين البلدين ما بين سنوات 1969 وسنة 1972 . ويُستفاد من تسرّع هذا الطرف وتماطل الطرف الآخر إلى حسابات سياسية ، ومهما يكن من أمر فإن الحسم في أمر الحدود كان بقرار سياسي من هذا الجانب أو ذاك. وتبعا لمصادقة الرئيس هوّاري بومدين على المعاهدة ونشرها في الجريدة الرسمية الجزائرية سنة 1973 ،ومصادقة الملك الحسن الثاني عليها سنة 1989، وتبادل وثائق التصديق في السنة ذاتها ، ثم نشرها في الجريدة الرسمية المغربية سنة 1992 ، تكون بذلك كل مراحل المسطرة الخاصة بتطبيق القوانين والمعاهدات قد استنفذت ، من إنشاء وتوقيع ومصادقة ونشر بالجريدة الرسمية ، لكن اللافت للنظر أن هذه المعاهدة رغم أهميتها وأبعادها الخطيرة لم تُقدَّم إلى البرلمان المغربي من أجل المناقشة والمصادقة ، وهذا ما دفع البعض إلى القول بأن المعاهدة المذكورة غير نهائية وقابلة للمراجعة بناء على أن البرلمان لم يصادق عليها . غير أن الحكومة الجزائرية سارعت إلى تسجيل المعاهدة في الأمانة العامة للأمم المتحدة طبقا للمادة 102 من ميثاق هيئة الأممالمتحدة ،وجاء هذا الإجراء طبقا لما نصت عليه المادة التاسعة من الاتفاق الخاص بالحدود بين البلدين سنة 1972 . لكن تبقى كثير من الجوانب خافية عن كل باحث في هذا الموضوع ، مما قد يؤول إلى القول بأن فرضية مراجعة هذا الاتفاق تظل قائمة بناء على علّة قانونية شابت المصادقة عليه من الجانب المغربي ، أي عدم خضوعه للمؤسسة التشريعية قصد مناقشته والمصادقة عليه ، ويرى البعض أن العاهل المغربي قد تجاوز هذه المسطرة بناء على يخوّله له الفصل 31 من الدستور المغربي ، الذي نص على أن " يُوقّع الملك المعاهدات ويصادق عليها ، غير أنه لا يصادق على المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة إلا بعد الموافقة عليها بقانون " ( انظر كتابنا : "من قضايا الحدود بين المغرب والجزائر" ، ص169 وما بعدها ) . ويبقى في نهاية المطاف تأويل وتفسير الحيثيات متروك لذوي الاختصاص من فقهاء القانون ، رغم أن كل الذين استطلعنا رأيهم في الموضوع يقرّون بأن المعاهدة استوفت كل الإجراءات المسْطرية من أجل خروجها إلى حيز التطبيق . ويتبيّن من السياق التاريخي الذي مرّت به هذه المعاهدة أنها أنهت مشكلة الحدود بين المغرب والجزائر طبقا لما جاء في فصلها السابع المشار إليه أعلاه . بينما ظلت مقتضيات علاقة الجوار بين البلدين غير مؤطرة باتفاق جديد ، وزاد من تعقيد الوضع تلك الأحداث التي وقعت بمراكش سنة 1994 وترتب عنها إغلاق الحدود البرية بين البلدين . ونستنتج من ذلك أن ما يقع من أحداث على الشريط الحدودي مردُّه غياب إطار قانوني ينظم علاقة الجوار عبر البرّ بين البلدين ، ومن المفيد هنا التذكير بأن علاقة الجوار بين الطرفين كانت تحكمها معاهدة إيفران الموقعة سنة 1969 ، إذ نصت المادتان الأولى والثانية منها على ما يلي : " يسود بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية والمملكة المغربية سلم دائم وصداقة متينة وجوار مثمر ينبع من روح وضمير الأخوة العريقة بين الشعبيْن الشقيقيْن ويهدف إلى تشييد مستقبل مشترك ، ويتعهد الطرفان المتعاقدان بدعم علاقاتهما المشتركة في جميع الميادين، وخاصة الميادين الاقتصادية والثقافية ، مساهمة منهما في توسيع مجالات التفاهم المتبادل بين شعبي الجزائر والمغرب الشقيقيْن وتقوية الصداقة وحسن الجوار بينهما " . غير أن المادة الثامنة أقرّت بأن " تبقى هذه المعاهدة سارية المفعول لمدة عشرين سنة ابتداء من تاريخ دخولها في حيز التنفيذ ، وتُجدّد تلقائيا لمدة عشرين سنة أخرى ما لم يصدر عن أحد الطرفيْن المتعاقديْن إشعار كتابي إلى الطرف الآخر بالرغبة في إلغائها، وذلك قبل انتهائها بسنة ". ومن المصادفات التاريخية أن نهاية المدة المحددة لهذا الاتفاق وافقت تاريخ تبادل وثائق التصديق على المعاهدة الخاصة بالحدود ( 1989 ) ،وفي هذا الوقت بالذات أُعلن عن تأسيس اتحاد المغرب العربي. ويبقى التساؤل مطروحا حول تجديد معاهدة الأخوة وحسن الجوار بين المغرب والجزائر الموقعة يوم 15 يناير 1969 بإيفران بعد انقضاء عشرين سنة . تذهب عدة مؤشرات إلى عدم تجديدها ، أو على الأقل وقع تجميد العمل بها ، وهو ما تعكسه علاقة الجوار بين البلدين ، وما يترتب عن هذا الوضع الغامض من أحداث على الشريط الحدودي. كما أن الشروط التي وضعتها الحكومة الجزائرية لفتح الحدود تؤكد أن معاهدة الأخوة وحسن الجوار الموقعة بإيفران أصبحت متجاوزة ،ويستوجب الأمر وضع إطار قانوني جديد تنبني عليه علاقة الجوار بين البلدين في سياق المتغيرات التي عرفتها المنطقة بعد المسيرة الخضراء واسترجاع المغرب لصحرائه سنة 1975. ويتبيّن أن حسابات سياسية هي التي تتحكم في إقامة علاقة جوار طبيعية بين البلدين ، والتوافق بشأنها قد يساعد على التقليص من عدد الأحداث التي تقع على الشريط الحدودي، وتتحقق تنمية اقتصادية على طول التخوم المغربية الجزائرية ، وهذا ما ينشده الأهالي من الجانبيْن.