في كل موسم أمطار يعيش المغرب على وقع مشهد مأساوي يخلف ضحايا في الأرواح، وخسائر مادية جسيمة سواء في ممتلكات الدولة أو ممتلكات المواطنين، كما تعيش تجمعات سكنية في حالة عزلة قد تمتد لعدة أسابيع. إن الفيضانات بكل تأكيد قدر من الله، لكن الأخذ بالأسباب في مواجهة مخاطرها و تجنيب الوطن والمواطنين فواجعها و خسائرها هو أيضا قدر و مقدور عليه. و بالنظر إلى طبيعة الخسائر التي خلفتها الفيضانات الأخيرة، وهمت عددا كبيرا من المدن والقرى، نجد أن معظمها، كما هو الشأن في فيضانات قبلها، يرجع في أصله إلى الأخطاء التي ترتكب إما من طرف المواطنين، أو من طرف السلطات المحلية والمصالح الجماعية. و هذا النوع الأخير من الأخطاء يرتبط بالأساس بالتوسع العمراني الذي يزحف على مجال الأودية والأنهار، وعلى المسالك الطبيعية للسيول. وهذا التوسع العمراني، سواء تعلق الأمر بالبناء العشوائي أو بالبناء القانوني الذي يشمل تلك المجالات الخطيرة تتحمل مسؤوليته الكبرى الدولة (ممثلة في وزارة الداخلية و وزارة التعمير والجماعات المحلية ...). لقد صدق المواطن في ضواحي تزنيت الذي أعلن أن جرف مياه الفيضانات لبيته لا يتحمل هو المسؤولية فيه، بل تتحملها السلطات التي رخصت بالبناء في مجرا قديم للنهر لم يكن يعلم هو وغيره بوجوده. و لا يمكن بأي حال تجاهل مثل هذه الحالات التي كشفت الفيضانات الأخيرة عن عدد كبير منها. إن إعلان مدينة كلميم مدينة منكوبة بعد الفاجعة الإنسانية التي حلت بها، بسبب ارتفاع منسوب مياه الأنهار والمجاري الطبيعية لمياه الأمطار، يطرح وجوب فتح تحقيق حولها وفي كل الحالات المشابهة لها في باقي المدن والقرى. إن مؤسسات الدولة تمتلك بالفعل خرائط المجالات الممنوع فيها البناء بسبب كونها تمثل مناطق السيول الجارفة في الحالات التي تكثر فيها التساقطات. وهذه المعلومات الحيوية التي تتضمنها تلك الخرائط، لا تكون متوفرة عند معظم المواطنين، من جهة، ومن جهة أخرى لا تحفظها الذاكرة لأن الكثير من حالات الفيضانات الخطيرة تتم على فترات تفصل بينها مدد قد تصل إلى عقدين إلى ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر، مما يجعل المخاطر التي تمثلها مجاريها الطبيعة لا تحضر عند الجميع. وهذه القضية الحساسة تطرح أسئلة كبرى عن الأحزمة العمرانية الجديدة، المرخصة والعشوائية، والتي تحيط بكثير من المدن والقرى. فهذه الأحزمة التي لا تراعي جغرافية السيول، تتحول حين تهاطل الأمطار إلى حواجز تحول مسارات المياه نحو التجمعات السكنية. كما أن زحف البناء على جنبات الأنهار والأودية يحولها إلى أهداف حين تفيض، أو تحول اتجاه سيولها نحو التجمعات السكنية. فمن يتحمل مسؤولية وضع تصاميم التوسع العمراني عبر تلك الأحزمة دون استحضار المخاطر التي تمثلها؟ و من يتحمل مسؤولية زحف البناء العشوائي عبر تلك الأحزمة؟ إن أسباب خسائر الفيضانات لا تنحصر فقط في عدم احترام أو مراعاة المجاري الطبيعية للوديان في تصاميم التهيئة، وكذلك عدم احترام مسافة الأمان من الأنهار، بل نجد أسبابا أخرى تتعلق بانعدام أو عدم تناسب البنيات الأساسية مع الفيضانات، وعدم مراعاتها لها، وخاصة القناطر و الطرقات وقنوات صرف مياه الشوارع والأزقة. و أسباب تتعلق بغياب أو ضعف الاستعدادات القبلية لموسم الأمطار من طرف السلطات والجماعات المحلية، والتي تفضحها الاختناقات التي تعاني منها قنوات الصرف في الشوارع بسبب تراكم الأزبال أو مخلفات الأمطار السابقة. كما أن نوعا من الخسائر يرتبط بحالة البنايات، حيث أن معظم المدن المغربية تحتضن آلافا من البنايات الآهلة و المصنفة ضمن البنايات الآيلة للسقوط، والتي يلاحظ أن أغلب حالات الانهيار فيها تكون مرتبطة بالأمطار، كما هو الشأن بإقليم طاطا الذي أعلن فيه انهيار 177 دارا قديمة بسبب أمطار يومي الجمعة والسبت الماضيين. في كل هذه الحالات التي تساهم في رفع الخسائر التي تخلفها الفيضانات، نجد مسؤولية الدولة قائمة لا غبار عليها. ليس الهدف مما سبق حصر أنواع الخسائر والمخاطر المرتبطة بالأمطار والفيضانات، لكن فقط لتقديم صورة عامة تسمح بطرح سؤال المسؤولية في كل ما يرتبط بالأمطار والفيضانات. و كذلك تمييز الحالات التي يتحمل فيها المواطنون المسؤولية الكاملة مثل التهور في السياقة و سوء تقدير خطورة الطريق، وبين حالات تتحمل فيها الدولة (ممثلة بالسلطات المحلية والمصالح الجماعية) المسؤولية الكاملة. إن النظر في معطيات خسائر الفيضانات، سواء المتعلقة بنوعها أو حجمها، يؤكد أن الحالات الأخطر التي تعرض بشكل جماعي حياة المواطنين للخطر والتي تخلف بالفعل خسائر في الأرواح، ترتبط بمسؤولية الدولة. فمن جهة أولى تثار اختلالات التجهيزات الأساسية و مهام الجماعات المحلية، و من جهة ثانية تثار سياسة التعمير وقوانينه وتطبيقاتها، سواء من حيث موقع البناء الذي يتجاهل جغرافيا السيول الطارئة، أو البناء العشوائي، أو الهشاشة المترتبة عن الغش وعدم احترام معايير البناء. وفي هذا الصدد يطرح سؤال عريض يثير مسؤولية الدولة، ويدور حول مدى حضور الاعتبارات المتعلقة بجغرافيا السيول الطارئة في تصاميم التهيئة والتعديلات التي تلحقها؟ ويمكن زعم أنه ربما لا توجد مدينة أو قرية في المغرب تتضمن تصاميم التهيئة فيها تنظيما عمرانيا يراعي جغرافيا السيول، ويمكن اعتبار أحد مؤشرات ذلك غياب تجهيزات كبرى لتوجيه وصرف مياه الأمطار في حالات الطوارئ في المدن. لذلك لا نستغرب أن تتناوب المدن الكبرى، فضلا عن الصغرى والقرى، على دورة الفواجع المرتبطة بالفيضانات و الأمطار. إن الوقت مناسب اليوم لإثارة موضوع المسؤوليات حول الخسائر التي تنتج عن الفيضانات، ليس لتصفية الحسابات السياسوية، ولكن لتجنب تكرار المآسي بشكل بليد، يساءل الجميع، دولة ومجتمعا، أحزابا وهيئات مدنية، حكومة وبرلمانا. فهل يفتح ورش وطني يطرح سؤال المسؤوليات وسبل تفادي تكرار فواجع الفيضانات، أم أننا سندفن رؤوسنا في "رمال" ردود الفعل و التقارير الإعلامية؟