العبث ملح الحياة، القليل منه مفيد ليحول الطعام إلى وجبة لذيذة، والكثير منه يجعله عسيرا على الأكل والابتلاع.... والعبث أشكال وأنواع، فيه المقترن بالرؤية الفلسفية للحياة، ومرهون إلى القراءة والتحصيل والعلم، منتقداً الواقع الصارم في جديته بعبث أخلاقي وملهماً ومغيراً، وهناك العبث الناجم عن الجهل بالحياة وبالدنيا، والمقترن بأمية مطلقة تجهل رسم الحروف والكلمات، أو نسبية، وهذه أخطر وأشد فتكا، حين يكون مستوى استعمال هذه الحروف لا يتعدى تركيب الكلام، بمعنى نقل الجهل من المفكر فيه إلى المكتوب عنه.... هناك طبعاً أمية أكثر رقيا مما سلف، تمتزج فيها العدمية بالعمى السياسي، وتتفجر على شكل انتقادات تهدف الاعتراض على كل ما يأتي من "الهناك"... دون قراءة السياقات، ودون وضع الحدث في إطاره المجتمعي والتاريخي قبل السياسي.... كل ما سلف تم تبئيره في واقعة وفاة المفكر المغربي المهدي المنجرة، والذي تفرق قميصه بين الدولة والغاضبين منها والمستعملين من طرفها بوعي أو بدون وعي.... حين أرسل الديوان الملكي رسالة التعزية إلى عائلة الدكتور المهدي المنجرة، فعل ذلك من موقع دستوري، كون الملك هو رئيس الدولة، وقدر، عن حق، أن المهدي المنجرة ترك أثرا فكريا ما، ولمع إسمه في شعبة من شعب العلوم، وهي علوم المستقبليات، وبالتالي يستحق التفاتة الدولة هذه، كونها دولة المغاربة جميعهم والمهدي المنجرة منهم.... دون أن ننسى طبعا أن المهدي المنجرة لم يكن ذلك المعارض الجذري، ولم يطالب بتقويض بنيات النظام، ولا نظر للثورة في المغرب، هو عبر عن استياءه من تدبير معين وربما جر عليه هذا التعبير سخط أهل القرار، وربما غضب الملك نفسه، والذي ترجمه الحواريون، كدائما، بنوع من التعسف ضده وعزله وتهميشه.... الطرف الثاني، مالك الحقيقة الأزلية، والراعي الرسمي لكل الذين يتذمرون أو يعارضون، سواء وفق مبادئ مؤسسة وقناعات رافقتهم في مسيرتهم النضالية منذ الأزل، أو أولائك الذين "قطر بهم السقف"، إثر غضبة مولوية شملتهم، أو إبعاد لهم عن مائدة السلطة ذات تحول أو تهميش لمصالحهم المادية... هذه الفئة وهي ترفع المهدي المنجرة إلى مرتبة الشهيد، مع أنه توفي عن عمر طويل، 81 سنة، وتوفي بعد مسار سياسي عادي، لكن نؤكد مرة أخرى، بمسار علمي متميز، استغربت كون الدولة أرسلت تعزية إلى عائلته، وانتفضت ضدها، بينما الصحيح أنه كان عليها أن تبتهج بذلك، وتعتبرها انتصارا لحضوره، الدولي خاصة، وخطوة أولى نحو الاعتراف بكل رموز الوطن، مهما يكن اختلافهم مع هذه الدولة، ونواتها الرئيسية، الملك.... الطرف الثالث في هذه المعادلة هو"شعيبة"، تلك الفئة من القارئين شبه الأميين، الذين يتعرفون على الحروف الأبجدية بالكاد، ويستعملونها في نقل الكلام لا الكتابة... يتبنون الموقف المتطرف للإثارة، دون أدنى احترام لمشاعر الذين يقدرون بالفعل حجم الرجل، طلابه وعائلته والذين اشتغلوا رفقته... عذرهم أنهم اقتنوا كتبا للمهدي المنجرة ولم يتوفقوا في قراءتها، وحيثيات ما كتبوا خلطهم بين علم المستقبليات الذي تعرفه منظمة اليونيسكو في مجلتها الداخلية للعلوم الاجتماعية في صفحة رقم 391 لعددها رقم 220 الصادر في سنة 1970، بأنه مجموع العلوم الحسابية والاجتماعية التي ترصد مستقبل المجتمعات، بتحديد العناصر التي لا مناص من وقوعها وتلك القابلة للتغيير بتدخل العمل البشري..... خلطهم بين هذا العلم، وبين الدجل والشعودة التي تحيط بواقعهم، وربما هم نتاج لها.... طبعا الأعمى وحده، والأمي، والباحث على رفع النقرات على صفحته ومقالاته، بكل الوسائل الخسيسة من لا يرى كيف تقلد المهدي المنجرة عمادة قسم المستقبليات في جامعة طوكيو وكيف استحق على ذلك وسام الشمس المشرقة، وهو أكبر وسام يمنحه امبراطور اليبان لشخصيات عالمية قدمت خدمات جليلة لبلدها وذلك منذ 1881.... لعلنا أذكى من اليابنيين، ونحن نفضح حقيقة المهدي المنجرة الخاوية فكرياً.... أذكى منهم بكثير.... والدليل ما نجر من تفاهة لمناقشته.....