كان أن اعترض سبيلي واعترضت سبيله. مصادفة صارت حتمية. أو حتمية بدت كمصادفة. جنتلمان مثقف فرنكفوني لائكي ليبرالي ديمقراطي كبير ومواطن كوني، وما شئت وشاءت له دراسته العليا وأبحاثه وإقامته الطويلة في الحي اللاتيني وذوقه الفني الهيليني والشرقي أو المستشرق. شخصية من شخصيات مارسيل بروست، باستثناء جزء "سدوم وعمورة"* حسنَ ظن بأستاذي. نعوذ بالله من حال سدوم وعمورة في بلدنا.. وأنا في المقابل؟ "إخواني" كما قال الاصطلاح العوامي أو "أصولي" بالاصطلاح النضالي. لكنني في خويصة نفسي لم أكن لا ذا ولا ذاك. كنت تائبا جديدا، عاد إلى الذات والذات الفطرة. كل مكتشف يطفق يخبرُ عن اكتشافه عَمِيًّا عن أن معظم الناس لا يعنيهم ذلك الاكتشاف، ليس من أولوياتهم، بل ربما انقلب بطاقة لتصنيفه ووضعه على الرف بسرعة، لأنه أبدى صفحة وجهه ونتأ في عُرض الناس. جنى على نفسه أن صيرها غرضا لسهام اللامبالاة أو اللامباليات وهي هويات السواد الأعظم، وسهام هويات أخرى أيضا منذ صار الإجماع الوطني بساطا للتفرقة شيعا. عجبا. نصيحة، لا تخرج من المنطقة الرمادية، لا تنبعث من رماد القرون...فهو خير لك! وهل تملك؟ بحكم طبيعة مادته المنفتحة على فلسفة القانون جمعتني به زمنَ الجامعة نقاشات خفيفة لطيفة نسيتُ موضوع محاضراته ولم أنسَها لأنها لم تكن تلقينا جامعيا وهو أقبح التلقين. كانت مُعَاقلة حية، عقل في مرآة عقل. بدأَتْ بسوانح أسئلة كنت أطرحها عليه أثناء المحاضرات، ثم صارت دقائق حوار عقبها ثم آلت إلى صداقة تطورت حتى صار يعتز بها كما أعتز. كان يذكرها بإكبار. صداقة داخلَ الخلاف الجذري. لائكي مُودِرْنِسْتْ مع فونْدَمُونْطلِست. أف! أصنام المصطلحات في كل منعطف. ليس بدعة استيرادها في تاريخنا. قبل الإسلام كان الوثني العربي المترف يأتي بآلهته من الشام حيث مهرة النحاتين الروم. وبعد الإسلام؟ شفَّت الأصنام. الفارابي يترجم العبارة الفلسفية على بنيتها لليونانية الأصلية فيقول "الانسانُ عادلا موجودٌ". مثلا. بغض النظر عن قلق العبارة المترجمة المقدسة فقد كانت في أستاذي مزية أنه كما قال الفارابي، كان "عادلا موجودٌ". ربما لأنه لم يكن مناضلا عضويا فيه حمية طائفية ورغبة جامحة في الخروج من سرب البؤساء، لذلك كان وصفه لصداقتنا وساما من درجة فارس في التعددية والتسامح وقبول الآخر يوشح به نفسه. كان عَقدَ ذمة معكوس منذ هيمن أمثاله على المؤسسات والجامعات بالأساس. يسار و يسار سابح ذات اليمين بعد انهيار الجدار وميثاق الشرف وتكافؤ الأدلة. أدلة المصلحة. بدأ حوارنا بتحد وضعه أمامي كي يري للطلبة انغلاق أمثالي على دوغمائيتهم المريحة. - أنت، هل تستطيع أن تقول لي كم عدد روايات الإنجيل المعتمدة عند النصارى؟ - أربع روايات، حنا، لوقا، مرقص، متى! بخ بخ علي! لحسن حظي كنت اطلعت صيف تلك السنة على ثلاثية** موريس بوكاي فلم تعوزني الحجة. طبعا في نرجسية معرفية شبابية لأنني لم أنسب الرأي إلى أهله بل تحدثت كأني أنا من ينشئ أدلتي وحججي ويستنبط الأحكام من مظانها دون واسطة. مجتهد مطلق في الثانية والعشرين. ألقم الدكتور حجرا فعاود السؤال عن الثورة الفرنسية كي يرى ثقافتي الدنيوية. فكنت حديث عهد باطلاع على مذكرات*** أليكسس دو طوكفيل. وجدته عرضا عند بائع كتب مستعملة. نسخة قديمة رثة لكنها درة من درر الأدب الفرنسي ويكفي أنها مذكرات أليكسس دو طوطفيل وما أدراك! يحكي في لغة أنيقة عن مرحلة من مراحل الانتقال الديمقراطي. "ماشي المسلسل ديالنا." فوجدتني أشرح للأستاذ وأمام الطلبة عن صراع فلول الملكية والأرستقراطية الفرنسية المحتضرة وكيف هربت إلى الأمام بإطلاق حملة الجزائر 1830م ترميما لمِنْسأة النظام العتيق المتآكلة، مقابل مولود الجمهورية الجديد الخديج الموءود بعدها ثم المولود ثم المفقود ثم الموجود. خمسَ مِرَار. طوكفيل أب الديمقراطية الفرنسية، مستشار لويس-فيليب ثم وزير خارجية الجمهورية بعد سقوط الأخير. فافهم. مؤمن بضرورة بيجو ومجازره كضرورة دير ياسين لدولة إسرائيل. ولئن كان حديثي عن روايات الإنجيل جوازَ سفر لم يعد الحصول عليه أسطورة كما كان من قبل فإن الحديث عن طوكفيل كان تأشيرة الدخول إلى دولة أستاذي النفسية. والتأشيرة هي العمدة والعماد. لأقلب دولته؟ لا لم تنقلب. إن لم يقلب كلٌّ دولة نفسه بنفسه فلا مجال، خاصة إن كان أستاذا دكتورا. وما تغني الكتب الكبار. لكن لا أعدم أن أترك أثرا ولو كأثر رحالة سائح في بعض الديار. ألا يُذكر حانون بخير حتى الآن؟ صار الأستاذ يعزم علي من حين لآخر أن أتناول وجبة غذاء رفقته في مطعم أو نتمشى في أزقة المدينة العتيقة بالذات. أذكر أنه يوما تمادى بنا المسير والحديث حتى وصلنا المقبرة، فولجناها على أمل الخروج. ولجناها من بابها العالي الضيق ومررنا خلال قبور مصفوفة على منحدر حتى أتى بي إلى شاهدة قبر مرمرية كتبت عليه سيدة متفرنجة من عِلية القوم مفجوعة بوفاة بعلها كلماتِ تأبين بلغة فرنسية رقيقة كان يتقنها الزوج الدفين ولا يخاطبها إلا بها. ليت شعري ما قال وما قيل له وبأية لغة؟ - هل تعلم، هناك من ينادي بمقبرة لائكية. لا صلاة جنازة. لا استقبال قبلة. لا قرآن يتلى. فقط قصائد شعر وورد وشموع عطرة ذات ألوان... - وأنت؟ أعرض صفحا عن فكرة موته وانبرى يتحدث عن موت والده... وعن حياته. لم يعد الأستاذ مختزلا في فكرة مجردة في ذهني، على المستوى بتعبير هندسة إقليدس. إنه كائن بجميع أبعاده وأنا كذلك صرت كائنا في عينه. نزلنا من النووسفير****. لم أعد حريصا على إقناعه كما كنت في البداية حين رأيته أول مرة وخشيت واغتممت عليه أن يموت على حاله تلك، ويلقى الله وهو لا يؤمن به إلا كما يؤمن كانط. الإله هو الضمير وفقط. لا شيء مفارق. والإنسان غاية في ذاته لا وسيلة للأجر كما في الدين، والدين دوغما ونهاية البحث والقلق المنهجي وختام الديالكتيك. هيهات سيدي أن تحط عصى التسيار حتى تلقى الله. الدين إسلام وإيمان وإحسان وترقب للساعة ولكل حال روحي ومقام وَجَله إن كنت عن الوجل تبحث. ولو كان ضمير كانط هو الإله لماذا يا ترى كان آخر كلامه: "لم أعد واثقا من شيء، لم أعد واثقا من شيء"***** أليس الإله/الضمير عين اليقين وحقه؟ أليس اليقين بالخواتيم؟ يا سيدي: كانط؟ أم الجنيد البغدادي؟ التفتَ إلى تلاميذه مشفِقا مبتسما لمَّا ذكروه عند موته بقول "لا إله إلا الله" فقال لهم :"ومتى نسيته حتى تذكروني به، لو نسيته طرفة عين لانقطعت"؟ صرنا نتحدث رجلا لرجل، إنسانا لإنسان. هنا الآن. لا أحضه على شيء. أطرح فكرتي ويطرح فكرته، ويتحدث عن "طائفته" وأتحدث عن "طائفتي" وينتقد وأنتقد. الأيام بيننا تجري، تمحص الإنسان فينا. اللاشعور مقابل "اللاذاكرة" الغيبية المغروزة في الإنسان، تذكره بميثاق إلهي وتحذره الإصرار على الحنث العظيم. سألني يوم امتحان المشافهة عن علاقة الإلحاد بالإجرام. سؤال ماكر. الإلحاد جريمة نيتشه بامتياز سماءَهُ خربَها وضيع الميزان. ميزان عقله آخرَ التحليل. والملحد؟ بمفرده قد يكون كالجرادة القاصية عن سربها التائهة الباحثة عن القوت، تكون في خلوتها تلك ذات لون أخضر كأجمل ما تكون الخضرة، لكن بمجرد ما تنضوي في حزب الجراد وعُصْبته الهاجمة من كل مكان، يصير لونها بنيا داكنا كأنها ارتدت بزة مقاتل شرس. وأهل الإيمان؟ ألم يقتتلوا؟ نعم وكانت هناك فئة باغية! أعطاني نقطة عالية. هل كنت أستحقها فعلا؟ نعم لا. الخلاصة. يا ليتني مكثت طالبا سرمديا في غمرة الأفكار الجديدة والمفاهيم الضخمة واقتحام كبار الكتب المستعصية على الفهم الفتي، ومناطحتها بقرون طرية. أفتح دفتيها جاهلا متواضعا وأطبقها جاهلا متكبرا أريد أن أصارع الطواحين. ولا بأس والشبيبة تبلي عذرَ صاحبها. كم كنت أود أن أحفظها عن ظهر قلب كي تسعفني حين أناظر خصما فكريا فأبدي الحجة الضاربة في الوقت المناسب في المكان المناسب كرَامٍ بسهم أسرع من رمي ظلِّه. وهل يجدي الضِّراب الفكري وقد علم كل أناس مشربَهم؟ هل يجدي والعقل فِعْل من أفعال القلب، هلا كسبتَ القلب أولا؟ وهل يشرب أيٌّ كان من كأس أيٍّ كان إن لم تكن محبة؟ هل تكفي المحبة... دعني من حلقات الاصطكاك بأطياف المناضلين في مدرسة الخطابة، وغلالة التوهم لما ينبغي أن يظهر في الوقت أو ينبغي أن يكون عليه الكون، في غفلة عن مشيئة المكَوِّن. ألم تفتأ تزاوج "كن فيكون" ب"حتى إذا سويته"؟ "أنت أحْكَمُ منه سبحانه؟ تقول له ما يفعل بك وبغيرك؟" كما قال الجيلاني ولكن... "لا بد منك!"...ولا بد من الأستاذ. يحكي عن شخصيات أرستقراطية من الشواذ.« A la recherche du temps perdu »* الجزء الرابع من « La bible le coran et la science » & « L'Homme d'où vient-il ? » & « Moise et pharaon »** Alexis de Tocqueville – « Souvenirs »*** Noosphère **** « L'Homme et la mort »***** نقلا عن كتاب إدغار موران