لعله لا يخفى على الناس أن إدخال الفرح والبهجة والسرور على قلب الإنسان هو من أحب الأعمال إلى الله. بل لعله يعتبر من أحدث الاكتشافات العلمية في علاجات الطب النفسي الحديث في القرن الواحد والعشرين، لاسيما في الأوقات العصيبة كالأزمات الاجتماعية والنفسية التي تمر بها البشرية فرادا أو جماعات، ومن ضمنها أزمة جائحة كورونا (كوفيد 19) الحالية. غير أنها قد تتحول عكس ذلك من دواء إلى داء عند سوء استخدامها أو عند إساءة اختيار توقيت استعمالها أيضا؛ من ذلك تظهر أهمية إخضاع الفكاهة، التي تظل الداء والدواء في نفس الوقت، لمجموعة من الضوابط التي تنظم مسارات سلوكها بين أفراد المجتمع، سواء في مثل هذه الظروف العصيبة أو غيرها. حيث يمكن التمييز في هذا الصدد بين أوقات وأماكن وأنواع المزاح التي يستحب بل وقد يتوجب فيها على الإنسان إدخال البهجة والسرور على قلوب الآخرين؛ مقابل أوقات وأماكن الجد التي يتعين فيها ترك المزاح جانبا، والتزام الوقار والهيبة والمروءة، لا سيما في مواقف تتطلب نوعا من الحزم والصرامة، حددتها الشريعة الإسلامية السمحاء، ووافقتها القوانين الوضعية في ذلك. وفي ما يلي نستعرض بعض فوائد المزاح والتنكيت كعلاج فعال للإنسان في الأزمنة العصيبة ضمن سيكولوجية الضحك وسحر الفكاهة في كبح انفعالات الخوف؛ ونتطرق بعد ذلك للتأثيرات السلبية للمزاح ضمن سيكولوجية الخوف والإيحاءات المازحة المعتبرة قاتلة؛ ثم نختم بأنواع المزاح وضوابط استعمالاته لا سيما في ظل الأزمات الاجتماعية التي تمر بها المجتمعات الإنسانية كجائحة كوفيد-19 (كورونا المستجد). “سيكولوجية الضحك” وسحر الفكاهة في كبح انفعالات الخوف يعد المزاح والسخرية إحدى السمات الرئيسية وأحد الأشكال التعبيرية في ظل ما تعيشه الإنسانية في أوقات الأزمات الاجتماعية، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الصحي. لأن من أهم تأثيراتها الإيجابية أنها تخلص الفرد داخل الجماعة من الشعور بالخوف. وتعد المتنفس الأسهل للتخلص من الضغط الذي تمارسه عليه هذه الأزمات، التي تكون غالبا أكبر من قدرته على استيعابها أو الإحاطة بها. وذلك نظرا إما لحجمها وضخامتها والآثار الخفية التي يمكن أن تترتب عليها؛ أو نظرا للتيه الذي يشعر به المتلقي وسط كثرة الأقاويل والدراسات والتكهنات والإشاعات، التي يتلقاها في اليوم والساعة من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الدولية. إن أدق تشخيص للإنسان المتلقي في وضع التيه ذاك، هو أن كثرة التفاعل مع ما يتلقاه من أخبار، تبعثر أوراقه وتشتت أفكاره وتركيزه وتربك بوصلته بحيث يفقد وجهته نحو بر الأمان، ويفقد القدرة على التمييز بين ما يجب تصديقه وما يجب تكذيبه. غير أنها تعد كذلك وسيلة لمقاومة الغيب المجهول المخيف، بحيث يسعى من خلالها إلى خلق توازن نفسي رمزي، وتعتبر روح الدعابة التي يتقمصها من أجل خلق المرح والمزاح، داخل معاقل الجد ووسط أمواج الأزمات والأخطار، من أهم أشكال المقاومة الثقافية في مجتمع يعيش ضمن إمكانيات محدودة، يؤدي التفكير فيها بجد وعقلانية إلى سرعة الاستسلام ومن تم الانهزام. لذلك يفضل الفرد عموما أن يلجأ إلى استعمال سلاح المزاح والهزل والدعابة، أملا في تخفيف ضغوطاته النفسية والعصبية. وهو ما يعبر عنه في علم الاجتماع ب”سوسيولوجيا النكتة”، باعتبارها مرآة عاكسة لواقع مجتمع يتخبط في أزمة أو ضائقة اجتماعية أو طبيعية معينة، تشعره بالقهر الذي يضطره إلى البحث عن الوسائل والسبل الكفيلة بتخليصه، أو على الأقل تخفيف حدة ذلك القهر عنه. ولعل ذلك هو ما يسميه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ب”محاولة لقهر القهر”. فقد نصادف نوعا من الضحك نابعا من حالات نفسية مختلفة كالخوف والحزن والألم والقلق وغيرها… وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بقوله: “إنني لأعرف تماما لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، فإنه لما كان هو أعمق الموجودات شعورا بالألم، كان لا بد له من أن يخترع الضحك”. لذلك تبقى النكتة متنفسا في قناع ساخر لواقع اجتماعي متأزم يخفي الجانب المظلم فيه، ويظهر الجانب الهزلي للتخفيف من حدته. عموما يأخذ التعامل مع آلام الواقع وأوجاعه ومعاناته أحد الوجهين؛ إما توجها نحو اللامبالاة بالقضايا الجوهرية للعالم في مثل هذه الظروف، أي عدم الاهتمام بكل ما يجري من حوله، إما إيمانا من الفرد وتفويضا لأمره لله بأن الأمور بيده وحده يصرفها كيف يشاء، أو تجنبا لتلقي أخبار مخيفة؛ أو عبر المزاح والفكاهة التي تعني التخفيف من حدة التوتر النابعة من حقيقة الوضع الخفية أملا في تغييره، وذلك في نوع من التضامن بين الأفراد الذين يتداولون الدعابة والنكتة في أوقات الأزمة. أي أن هذا التضامن واستطالة أمد المزاح والتنكيت، يعني ترسيخ الاقتناع بأن الأمور بخير وأنه ليس هناك ما يدعو إلى القلق، حيث يصبح الاستمرار في تداول النكت بمثابة جس لنبض تطور الأمور ومقياسا لها، ويصبح استمرار تلقيها مبعثا للإحساس بالطمأنينة. وفي هذا الإطار يعتبر “لورنتس” ضمن سوسيولوجية الضحك، أن الضحك إشارة دالة على موقف يتسم بالأمن بالنسبة إلى أعضاء الجماعة الآخرين. لذلك فنحن نضحك لنخفف أعباء واقعنا من خلال تخفيف جدية الحياة، وإراحة النفس من كثافة المشاكل اليومية وإطلاق الذات من أسر التفكير الجاد والعميق. فحسب إحدى الحكم الاسكتلندية الرائعة، فالابتسامة تكلف أقل من الكهرباء، لكنها تؤمّن المزيد من النور. فإذا كانت الحياة على حد تعبير “شارل لالو” هي الفردوس المفقود، فإن الضحك هو الفردوس المستعاد. وربما كانت هذه هي الفكرة المحورية التي تدور حولها نظرية “سيغموند فرويد” في مؤلفه الشهير “سيكولوجية الضحك” عندما قال عن النكتة بأنها “نوع من الفعل الإرادي الذي يلجأ إليه الإنسان ليتحرر من جدية الواقع، فهي أشبه ما تكون بالأحلام التي يهرب فيها الإنسان من وعي الصحو ومنطق اليقظة، إلى النكتة أو الحلم عندما تصادفه صعوبات يحاول تذليلها”. وهو نفس ما يذهب إليه عالم النفس الإنجليزي “هربرت سبنسر” عندما يرى على أن الضحك في جوهره يشبه التفريغ للطاقة العصبية البالغة القوة التي لا تجد متنفسا آخر لها. وبهذا تتحرر النفس من شتى مظاهر العناء والمعاناة، حيث تجد لها منفذا في المواقف المازحة والساخرة. وفي هذا الصدد لا يخفى أن العلاج بالضحك يعد أحد أحدث تقنيات القرن الحادي والعشرين في الطب النفسي كما أشرنا، إذ من فضائل الله عز وجل على الإنسان أنه ميزه عن غيره من الخلق بفضائل عديدة، إحداها فضيلة الضحك التي تعد فضيلة إنسانية خالصة، يمكنه من خلالها أحيانا مواجهة صعاب الحياة وتقلباتها. فمن الآثار الإيجابية للضحك أنه علاج فعال لأوجاع وآلام الإنسان منذ القدم، حيث عُرِف أن للضحك فوائد جمة على مستوى ضغط الدم والتنفس والاسترخاء؛ حيث يكون للضحك دور فعال في عمليات البناء العضوية داخل جسم الإنسان في زمن الخوف، مما يساعده في التغلب عليه. مقابل ذلك، فقد يكون الاستسلام للخوف أحد معاول الهدم التي تشل العقل وتذيب صحة القلب وتضعف الجهاز التنفسي، إذ لا تخفى فائدة الضحك في تقوية جهاز المناعة وزيادة استرخاء الجهاز العصبي، وزيادة إفراز هرمونات الأندروفين في المخ، هاته الأخيرة التي تلعب دور الحرس الطبيعي المدافع عن جسم الإنسان ضد الألم والتوتر. فلقد أظهرت إحدى الدراسات الحديثة أن الضحك والفكاهة هما عاملان معدلان للأحاسيس السلبية المرتبطة بالضغوط النفسية والبدنية. وعندما يستخدمها الإنسان بشكل مناسب، فإنه يعمل على تقليص هذه الضغوط ويقلل من تأثيراتها السلبية التي تقود إلى احتمالات وقوعه في شبكة الاضطرابات الانفعالية، كالقلق والاكتئاب واليأس وغيرها. فالضحك وبسبب تزايد وثيرة التنفس خلاله، يؤدي إلى زيادة في نشاط الجهاز التنفسي الذي يساعد على إنتاج مادة الأندروفينات في المخ ذات التأثير الفعال في تخفيض مستوى الشعور بالألم، وترفع مستوى الإحساس بالراحة مما يساعد في تقوية جهاز المناعة. عكس ذلك تتسبب الضغوط النفسية في خلق حالة فسيولوجية مرتبكة، تعمل على زيادة التوتر العضلي وزيادة ضغط الدم، المتسبب الأساسي في ضعف الجهاز المناعي للجسم. في غضون ذلك يقول الدكتور “جودمان” مؤسس مشروع العلاج بالضحك في أمريكا عن الفكاهة، إنها كتدخل صحي ليست أمرا متعلقا بالنكات والتهريج فقط، لكنها أكثر من ذلك وسيلة لنكون منفتحين ومرحين ومتفائلين في إدراكنا للواقع. هكذا يصبح تداول الفكاهة بشكل جماعي في أوقات الأزمات الاجتماعية العصيبة، سبيلا نحو ما يعرف بطريقة العلاج الجماعي؛ هذا العلاج يعمل بشكل أفضل نتيجة للتنوع المتزايد في الأفكار الإيجابية، وخلق أجواء التنشيط والترابط الاجتماعي داخل الجماعة، حيث إن إطلاق النكات في جماعة يولد ضحكا، والضحك يمتاز بخاصية العدوى داخل الجماعة، مما يعمل على زيادة تماسكها وعلى استبصار أفرادها بهذه المشاكل المشتركة بينهم، وزيادة تقبلهم للمعايير الاجتماعية الناتجة عنها. غير أن هذا المزاح والضحك وإن أثبتت الدراسات النفسية والاجتماعية جدارتهما وفعاليتهما، إلا أنهما يظلان مقيدين ببعض الضوابط والقيود التي تهذب ممارستهما كعلاج. “سيكولوجية الخوف” والإيحاءات المازحة المعتبرة “قاتلة” إن العجز أمام قوى الطبيعة الخارقة التي يعجز العقل البشري عن تفسيرها، لا سيما غير المرئي منها، تفتح المجال أمام العديد من الاختلافات في التفسير والتأويل، مما يضاعف من قلق الإنسان عندما يصعب عليه التمييز بين ما يجب تصديقه وما لا يجب تصديقه. فلا يجد من طريق أفضل من الهروب إلى التخفيف من وطأة الضغوط، عبر شحن الذات بالطاقة الإيجابية التي تضعف الطاقة السلبية بداخله من خلال الضحك والفكاهة. فالإنسان عموما لا يقبل الكارثة والخطوب والهزيمة في أمر واقع، لذلك يتوسل بأساليب عدة للسيطرة على الوضع بمجموعة من الوسائل التي يعد الهروب أحدها، من أجل محاولة إدخال الطمأنينة والتوازن على نفسه ومحيطه. هذا الهروب الذي يتخذ عدة أوجه، ما يهمنا منها في هذا المقام هو الهروب نحو المزاح والفكاهة، التي تلازم مستوى معين من مستويات درجة التهديد التي يرى أن الأزمة الحاصلة تحيطه بها؛ فهي تشكل أحد خطوط الدفاع النفسية لديه. إن إنسان عالم الأزمة المرحلية، دون التمييز بين إنسان العالم المتقدم أو المتخلف، يرزح تحت وطأة انفعالاته التي ولدتها له أزمة معينة في أوقات الشدة. فالماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للإنسان تشكل الأبعاد الثلاثة لعلاقة الديمومة، أي للتجربة الوجودية المعاشة زمنيا. لأن الفرد في أوقات الأزمات يستحضر زمنا في الماضي مر بنفس الأزمة، وينقلها إلى الحاضر ليحاول مقارنتها ثم يخرج باستقراء للمستقبل، في ظل ما آلت إليه الأزمة في الماضي، وهو يحاول بين الماضي والحاضر خلق تصور للمستقبل انطلاقا من ماض كان بمثابة المستقبل لماضي ذاك الزمان، أي زمان ما بعد انفراج الأزمة في ذلك الوقت. فآلام الماضي تؤثر على الحاضر فتجعله أشد وطأة، وتؤثر على المستقبل فتجعله أكثر مدعاة للقلق؛ وبالمقابل يخفف التطور الإنساني والعلمي والطبي والتكنولوجي الحاصل من حدة الحاضر المشابه لماضي مزعج، وتجعل المستقبل أكثر تفاؤلا في التخلص من الماضي المخيف والحاضر المقلق. كما أن أفراح الحاضر تنفذ إلى أعماقنا وتفتح نافذة التفاؤل على المستقبل لتخفف من معاناة الحاضر. ولعل هذه العلاقة التلازمية الثلاثية الأبعاد، هي ما يستوجب نوعا من العقلانية والموضوعية في التعامل مع الأزمات التي تعترض الحياة البشرية. وعليه، فبينما تتطلب مثل هذه الظروف العصية مزيدا من الموضوعية والعقلانية التي تمكن من مجابهتها بدرجات معقولة من الفعالية، نجد أن الإنسان القلق يختار أن يسبح بروحه وتفكيره في تيارات جارفة من الانفعالات، التي يعتبرها خلاصا له من التوترات الضاغطة. أي يفضل الارتماء في أحضان أنهار الفكاهة التي لا يعرف مصبها، ولكنه يعتبرها ستأخذه بعيدا عما يراه آنيا منبعا للتوتر، أي نحو الخلاص. لأن طغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص عقلاني، تعتبر ظاهرة مألوفة في فترات الأزمات التي تمر منها البشرية، تعطل قدراته في التفكير الموضوعي والنظرة العقلانية، لأنها بكل بساطة تلعب دور المنشطات التي تخدر العقل وتخرجه لحظيا من واقعه، إلى عالم يسترخي فيه وترتاح فيه أعصابه، لأنه يستسلم للشعور باللذة من خلال الهروب من واقع إنسان مقهور، إلى واقع إنسان متمرد على أزمة يسعى إلى خلق لذة للاستمتاع فيها والتخلص من ضغط تلك الأزمة. غير أنه ربما يخفى على كثير من الناس التأثيرات السلبية لبعض الأخبار المازحة، التي قد تتحول إلى سلاح قاتل عندما تصدر في شكل إيحاءات قاتلة، إذ لا يلقي الإنسان لوقعها على الآخرين بالا وهو ينشرها، بحيث يتغافل أن درجة القوة النفسية للمتلقي تختلف من إنسان إلى آخر، فقد تمر على أحدهم مرور الكرام، بينما قد تؤدي إلى رهاب نفسي قاتل لدى البعض الآخر، ممن قد يكون إحساسه مرهفا أو مر من ظروف نفسية عصيبة. ولعلنا نصدر في هذا المقام نموذج الإيحاء القاتل الذي قام به سقراط لجاره الطبيب، الذي استنكر على الملك إطلاق لقب الطبيب الأول على سقراط، فسأله الملك عن طريقة يثبت فيها أنه الأفضل لنقل اللقب إليه، فقال الطبيب سأسقيه السم ويسقيني، ومن يعالج نفسه فهو الأحق بهذا اللقب. فبينما انهمك الطبيب في تحضير الوصفة خلال الأربعين يوما التي حددت كموعد، استقدم سقراط ثلاثة رجال أشداء، وأمرهم بسكب الماء ودقّه كل يوم على مسمع جاره الطبيب..؛ ويوم التنفيذ، أعطى الطبيب السم لسقراط الذي استطاع التغلب عليه وعالج نفسه بعد ساعة؛ ثم أمر الملك الطبيب أن يشرب سم سقراط، وما هي إلا لحظات حتى وقع الطبيب صريعا على الأرض.. هنا قال سقراط للملك: لم أعطه سمّا، بل ماء عذبا وسأشرب منه أمامك.. لقد قتل سقراط منافسه بقوة الإيحاء، فأسمعه دقات الموت على مدار أربعين يوما، بينما لم يكن يدقّ إلا الماء، لكن الوهم والإيحاء قتلا منافسه. هذا النوع من الإيحاء يؤدي إلى شلل الجهاز الحربي المناعي الذي منحه الله للإنسان، وهو جهاز مناعته. لذلك فللوقاية من تداعيات أزمات اجتماعية بشرية معينة كجائحة كورونا الحالية، إذا كان المزاح بالشكل الذي تم التطرق إليه ضمن فقرة سيكولوجية الضحك أعلاه، سيتخذ منحى العلاج النفسي الفعال يعتبر شيئا مستحبا للترويح عن الناس؛ فإنه يجب أن يظل في إطار معقول ومتوافق مع ما تفرضه علينا تعاليم ديننا من تقوى الله، خصوصا في أزمنة الجوائح التي تتطلب التضرع والدعاء والتقرب إلى الله، عسى أن يكشف عن الأمة والبشرية جمعاء ضنك الحال. لأن الوضع أقرب إلى الجد منه إلى المزاح والهزل. وهنا يجدر التنويه إلى المبادرة التي قامت بها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، من خلال قيامها بإنشاء خلية للاستماع والدعم النفسي، تضم أساتذة ودكاترة متخصصين في علم النفس، في إطار التضامن مع الجهود الوطنية في مواجهة هذه الجائحة نفسيا. هكذا ومن أجل تمييز أوقات الجد عن المزاح، وللفصل بين التأثيرات الإيجابية والسلبية له، كان لا بد من توضيح أنواع وضوابط استعمالاته وفق ما سنتطرق إليه أسفله. أنواع المزاح وضوابطه حددت كل من الشرائع السماوية والمنهج النبوي الشريف بل وحتى علماء الاجتماع وعلى رأسهم ابن خلدون، ضوابط المزاح والهزل. فمن الضوابط المشروعة للمزاح التي ينبغي مراعاتها، ألا يشتمل على ترويع أو أذى للناس قد ينبني على افتراءات، وألا يكون في أماكن وأوقات لا يصلح فيها إلا الجد، بحيث يتوجب فيها ترك ما يخل بالمروءة، ومما يخل بالمروءة كثرة المزاح كما نص على ذلك الفقهاء. ومن أهداف المزاح وغاياته السامية، الإسهام في زيادة الترابط الاجتماعي والاطمئنان النفسي كما سلف، واستجماع النشاط ونفي السأم والهم، ومعالجة ضعف القلوب وجبرها ببعث دفئ الطمأنينة فيها، ونشر البسمة على الأفواه وإشاعة الفرح والسرور. إذا كانت هذه هي الفلسفة العامة للمزاح في أوقات الرخاء، فإن أوقاتا عصيبة قد تمر بها البشرية، تفرض نوعا من المسؤولية والجد في التعاطي مع الأمور. هكذا ففي الوقت الذي تخبرنا فيه كتب التاريخ عن أسلافنا وأجدادنا، كيف كانوا يتصرفون في أوقات الجوائح، حيث لم يجدوا في أعوام انحباس المطر وتفشي المجاعات والأوبئة ملاذا سوى المرابطة والتكافل والانزواء والتضرع، وتلاوة صلوات الاستسقاء والاستشفاء والاستسلام للقضاء والقدر، عسى الله أن يرفع عنهم البلاء والوباء ويكشف غمتهم وكربتهم؛ نجد أن هناك من أحفادهم اليوم من يتخذ من الجائحة مثارا للسخرية والمزاح. ولعل القصد من وراء تبيان الأوقات والأماكن والمعاملات والمهام والأزمنة التي يجوز فيها المزاح، مقابل تلك التي لا يجوز بل ويحرم ويمنع ويعاقب أيضا المازح فيها، لأسباب كثيرة تتعلق إما بهيبة الظرفية أو المكان أو الزمان أو المهمة أو المعاملة؛ هو تقديم الإيضاحات والشروحات اللازمة لاستيعاب جدية الأمور. وهو ما يقتضي تمييز أنواع المزاح التي من خلالها يمكن تبيان ضوابطه. وعليه، يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من المزاح: النوع الأول ويتعلق المزاح المستحب والمباح، وهو الذي يكون في أوقات الرخاء التي نعيشها في الوضع الطبيعي، والتي لا يلام المرء بشأنها عموما. والمقصود فيها الترويح عن النفس البشرية بكياسة، أي بميزان. من ذلك مثلا المزاح مع الأطفال والأهل والأصدقاء، أو عند عيادة المريض للرفع من معنوياته، أو في المناسبات الاجتماعية التي يراد فيها خلق جو من الود والسرور المرتبط بها، سواء تعلق الأمر بحفل زفاف أو حفل تخرج أو عيد ميلاد أو ما شابه. أما النوع الثاني فيتعلق بالمزاح المحرم والمنهي عنه، وهو المرتبط ببعض المواقف والمواضع التي يمكن التمييز فيها بين المتعلقة بالمقدسات، أو ببعض الأماكن أو ببعض الأزمنة أو ببعض المعاملات، أو ببعض المهام والتي يحرم الهزل والمزاح فيها ومنها ما ينهى عنه، لكونها تتطلب نوعا من الجد والهيبة والوقار. فبالنسبة للسخرية المتعلقة بالمقدسات فمن قبيل الهزل ببعض آيات القرآن الكريم، من قبيل تمثيل الحجر الصحي بأصحاب الكهف “كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم”. أو من خلال تداول صور أجنبية تطلب من الله، تبارك الله وتعالى عن ذلك، إعادة برمجة الكون لأن به “فايروس”.. مع إغفال المقبلين على ذلك أن مثل هذه الصور والتعاليق قادم من مجتمعات أجنبية لا تؤمن بالمقدسات الدينية، بل تعتبر الاستهزاء بالذات الإلهية وبالديانات والرسل جزءًا من حرية التعبير، التي تجيز السخرية منها على غرار السخرية من رؤساء الدول والحكومات، وأنى للناس أن يتفكروا ويتميزوا الفرق في ذلك وطوبى للعقلاء؛ ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ محمد، 24. وهنا وجب التنبيه إلى أن المزاح بالدين من باب الاستهزاء به، وهو شيء محرم وموجب لسؤال الله لنا كما سأل الذين استهزؤوا من قبل بالدين، لقوله ﷻ: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ التوبة، الآية 65. بل إنه فيه عدم توقير للذات الإلهية، هذا بدل أن نتضرع إلى الله ونستغفره ونتوب إليه ونوقره كما أمرنا لقوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ نوح، 10-13. أما المتعلقة بالأماكن التي يحرم المزاح فيها فكالمقابر التي لا يشرع فيها الهزل بتاتا لأنها تعتبر أماكن للعبرة والاتعاظ. ومنها ما لا يمكن التساهل بالمزاح فيها مثل ميادين القتال والمختبرات العلمية وأقسام الدراسة والتحصيل والمحاكم وغيرها. أما المتعلقة بالزمان أو الظرفية فعند تشييع الجنائز وفي أوقات الحروب وأوقات الأوبئة والجوائح وغيرها. أما المتعلقة بالمعاملات فتلك المتعلقة بالمعاملات المالية والشرعية كالوصايا والهبات والميراث وأحكام النكاح وغيرها. أما التي تتعلق ببعض المهام كأولي الأمر في تدبير شؤون العامة من الرعية والأمة، وعلماء الدين وخطباء المساجد في التحدث والإفتاء في أمور الدين، والأطباء أثناء التشخيص أو الجراحة، والقضاة أثناء المحاكمة، والمحامون أثناء الترافع، وباقي العلماء في مجالات تخصصهم وفي تدبير الفترات الحالكة التي تمر بها البشرية جمعاء؛ لأنها تنقص من هيبة المازحين في أثناء أدائهم لمهامهم، وتذهب مروءتهم وتنقص من مصداقيتهم. أما النوع الثالث فيتعلق بالمزاح القاتل، لأنه تترتب عليه عواقب وخيمة، مثل من يفتعل الغرق مازحا لمرة أو مرتين، فإذا كانت الثالثة حقيقية لن يصدقه أحد حتى يقضي غرقا. هذا النوع من المزاح يستمد تسميته هاته من كونه يؤدي إلى إدخال الفرحة والبهجة الخداعة والمزيفة القصيرة الأمد، المليئة بالألم القصير أو الطويل الأمد؛ لأنه مزاح بالجِد في وقت الجِد، أي مزاح بالأمور الجادة في الأوقات العصية التي تتطلب أخذ الأمور مأخذ الجد لا الهزل. إن ما يستتبعه ذلك من تبعات قد تجر الويلات من ورائها، حيث تؤخذ الأمور باستهتار يذهب همة العقل ويميت القلب، ويبعث على الطمأنينة الزائفة والثقة الزائدة والمزيفة في النفس، التي قد تقود المرء ومن خلاله محيطه إلى ما لا يحمد عقباه؛ حيث تؤدي كثرة التنكيت عن الجائحة في أوجها، لأن يأخذ الإنسان الأمور باستهتار زائد من كثرة الضحك، فتضعف لديه روح المسؤولية، ويتولد لديه شعور داخلي زائف أن الأمور هينة لا تبعث على القلق؛ حتى يستفيق، لا قدر الله، على حين غرة على واقع مرير يشبه وقعه وقع الصاعقة، مثلما وقع في بعض الدول الأوربية التي استهانت بالوضع في بادئ الأمر ولم تعره الاهتمام اللازم، في ظل ذلك الشعور الزائف بالطمأنينة التي ولدها لهم كثرة المزاح والاستهانة بالأمر، بينما الموت الصامت يتجول بينهم ويحصد الأرواح في غفلة من الأجهزة المفترض حرصها على فرض اتخاذ الحيطة والحذر، واتخاذ التدابير اللازمة في حينه، ولم يستفيقوا من غفلتهم إلا وقد أدركوا أن الخطب جلل. لعلهم وقعوا فيما يمكن تسميته ب”سوء التوقيت في اختيار التنكيت”. أو ب”الضحك والاستهزاء في زمن الوباء والابتلاء”. بل إن هذا الهزل قد تترتب عليه عواقب وخيمة من حيث تأثيره في المجتمعات التي تعاني من قلة الوعي، أو على الأقل غاب عنها في لحظة من الزمن في غفلة منها. حيث تؤدي كثرة الاستهانة بالأمر إلى عدم اكتراث الناس بخطورته وأخذه بالتهوين بدل التهويل. حيث إذا بدأت الأمور بالتهوين انتهت إلى التهويل، في حين إذا ابتدأت بالتهويل انتهت إلى التهوين لاسيما في أزمنة الجوائح حيث يتقيد الناس بالتدابير التي تتخذها أجهزة الدولة لمواجهتها ضمانا لعدم انتشارها. وهي التدابير المحمودة الناتجة عن المبادرة الملكية الرشيدة لجلالة الملك أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله، والتي تدخل في إطار الخطة الملكية الاستباقية المحكمة المستمدة من الهدي النبوي لسيدنا محمد ﷺ لتجنيب الدولة مخاطر جائحة كورونا، المتمثلة في قيامه بإغلاق جميع المنافذ الحدودية للمملكة برا وبحرا وجوا عدة أيام قبل أن تقوم بهذا الإجراء سائر دول العالم، لا سيما التي كان قد تفشى فيها هذا الوباء قبل أن يتحول إلى جائحة. وكذلك إعطاؤه لتعليماته السامية الصارمة بفرض إجراءات الحجر الصحي داخل المملكة. وهي التدابير التي كانت لها أبعاد وطنية ودولية حيث اكتسبت صدا إعلاميا دوليا نوه بنباهة عاهل المملكة وحبه لشعبه. إن هذه الخطة لم تكن سابقة على مستوى الدول فحسب، بل سباقة حتى على مستوى المنظمات الدولية التي كان من المفروض أن تفطن لخطورة الأمر باكرا، وتبادر إلى اتخاذ مثل هذه التدابير التي أعلن عن اتخاذها جلالة الملك؛ وذلك من قبل منظمة الأممالمتحدة بمختلف منظماتها ووكالاتها الدولية المتخصصة، وعلى رأسها منظمة الصحّة العالمية التي تعد السلطة التوجيهية والتنسيقية لمنظمة الأممالمتحدة في المجال الصحي، حيث تعتبر المسؤولة عن الأمن الصحي العالمي والضامنة للمساواة بين الدول في الحصول على خدمات الرعاية الصحية الأساسية ورصد الاتجاهات الصحية وتقييمها، وعلى الوقوف بشكل جماعي لمواجهة الأخطار والأوبئة عبر الوطنية. والمنظمة العالمية للجمارك التي من ضمن أهدافا الاستراتيجية السبعة، تعزيز الأمن وتيسير التجارة الدولية وحماية المجتمع والصحة العامة والسلامة بتعاون مع المنظمة العالمية للتجارة. والمنظمة الدولية للطيران المدني التي تكونت بهدف تشجيع تطور الطيران المدني الدولي في جميع أرجاء العالم بشكل آمن ومنظم. حيث تضع المعايير واللوائح التنظيمية الضرورية لسلامة وأمن وكفاءة الطيران وانتظامه، إضافة إلى حماية البيئة من التأثير السلبي للطيران المدني. هاته المبادرة التي تحمل العديد من الدلالات الإنسانية التي أقل ما يقال عنها، أنها جاءت بتلقائية الملك الخدوم لوطنه وشعبه، مصداقا لقول رسول الله ﷺ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. *مروان يعقوبي