لا يكاد يهدأ الصراع بين من يوصفون ب”المحافظين” و”الحداثيين” في المغرب بشأن قضية أو حادثة حتى يتجدد في واجهة أخرى من واجهاته المتعددة، قبل أن يتخذ الطرفان أرض “المساواة في الإرث (الميراث)” مسرحا لأحدث لصراعاتهما التي لا تنتهي، وغالبا ما تكون قضايا “الهوية” أشهدها. وهو صراع يرى مراقبون أنه لا يعدو كونه “نقاشا نخبويا”، بعيدا عن انشغالات قطاعات عريضة من المجتمع المغربي، بل ويمثل “إشغالا” للرأي العام عن المطالب الحقيقة المرتبطة بالتنمية والتوزيع العادل للثروة والسلطة في المملكة، التي ما تزال بعض أطرافها تغلي باحتجاجات. ورغم أن مطالبة تيارات وهيئات تصف نفسها ب”الحداثية” بالمساواة بين النساء والرجال في الإرث ليست بالجديدة، لكنها مؤخرا أخدت منحى آخر، شكلت “حرب النداءات والعرائض” إحدى وسائلها، وتم فيها إقحام المؤسسة الدينية الرسمية، وصولا إلى المطالبة بتدخل الملك، بوصفه أمير للمؤمنين لحسم هذا النقاش. رئاسة الرابطة المحمدية قبل أيام أعلنت الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مؤسسة دينية رسمية، في بيان، أنها أسندت تسيير أعمال مركزها في الدراسات والأبحاث في القضايا النسائية في الإسلام إلى فريدة زمرد، عضو المكتب التنفيذي للمؤسسة. ولم يتطرق البيان إلى رئيسة المركز السابقة، أسماء المرابط، المعروفة بكتاباتها ومواقفها الداعية إلى المساواة بين الرجال والنساء، انطلاقا من نصوص الوحي، كما تقول. ولم توضح الرابطة ما إذا كانت المرابط استقالت أو أقيلت من منصبها، فيما اكتفت الأخيرة، في وقت سابق، بالقول، في حسابها بموقع التواصل الأجتماعي “فيسبوك”، إنها قدمت استقالتها من رئاسة المركز، دون توضيح. وهو موقف تم ربطه مباشرة بتصريحات للمرابط، قبل أيام، خلال لقاء علمي لمناقشة كتاب حول ميراث النساء، وقالت فيه إن “المساواة في الإرث تتماشى مع مقاصد الدين الإسلامي وليست ضده”، ودعت إلى “حل مشكل الإرث بإنشاء لجنة ملكية (يأمر بها الملك) يتناقش فيها الكل، كما تم الأمر بالنسبة لمدونة (قانون) الأسرة”. لذلك خرجت هيئات ونشطاء للدفاع عن المرابط ضد ما اعتبروه “إقالة” لها من مؤسسة دينية رسمية، بسبب مواقفها التي يصفونها ب”المتنورة”، وهي المواقف التي جرت عليها انتقادات وصلت حد التهجم عليها من بعض شيوخ التيار السلفي في المغرب. وبعد التواري لأيام خرجت المرابط لتقول، في بيان، إنها “اضطرت” إلى تقديم استقالتها بعد “الضغوط” و”الجدل الواسع”، الذي آثارته آراؤها خلال المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء، “بسبب الاختلاف حول قضايا تتعلق بمقاربة إشكالية المساواة في الحقوق من داخل المرجعية الإسلامية”. وكما لو كانت تريد دفع تهمة “التطاول” على المؤسسة الدينية الرسمية، التابعة للملك، قالت المرابط إنها “تحمل القيم التي طالما أشار إليها الملك للحفاظ على ثوابت البلاد، دفاعا عن الحقوق المشروعة للمرأة ومسيرتها التي لا رجعة فيها نحو الحداثة”. حرب العرائض “حادثة المرابط” فتحت الباب أمام بروز عمليات تحشيد بين النخب “الحداثية” و”المحافظة”، فأطلق أكثر من مئة من النشطاء السياسيين والحقوقيين والباحثين والإعلاميين، بينهم أسماء المرابط، نداء (عريضة) من أجل “إلغاء نظام الإرث عن طريق التعصيب”، من قانون المواريث المغربي، على غرار ما مضت فيه بلدان إسلامية أخرى، وفق تعبيرهم. ولم يلبث هذا النداء كثيرا حتى خرج نشطاء آخرون بنداء مضاد يدعو إلى “المحافظة على نظام الإرث الإسلامي كما شرعه الله تعالى”، وفق قولهم. ولا يزال “الفريقان” (حتى أمس الخميس 28 مارس الجاري)، يحشدان الدعم لعريضتيهما على موقع “أفاز” العالمي، ويستمر الجدل والاستقطاب في الإعلام المحلي ومواقع التواصل الاجتماعي. رغم تصريحه باتفاقه مع مضمون العريضة المطالبة بالحفاظ على نظام الإرث كما هو، فإن أحمد الريسوني، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، القيادي الإسلامي المغربي، رفض الاتجاه بالنقاش حول الإرث إلى أسلوب العرائض والنداءات، قائلا، في مقال له بموقعه الإلكتروني الرسمي، إن “الفرائض (المواريث) لا تُلغى أو تُغَير بالعرائض”. واعتبر الريسوني أن “كل المسائل التي تحتاج عادة إلى العلم والعلماء، وتحتاج إلى المختصين والخبراء، وتحتاج إلى البحث العملي والاجتهاد الموضوعي، يكون من العبث والانحطاط والغوغائية إقحامها في منطق العرائض الشعبية والشعارات التحزُّبية والضغوط “النضالية”. ودعا من وصفهم ب'العقلاء والراشدين” إلى أن “يَجُرُّوا” أصحاب العرائض إلى ميادين العلم والمعرفة والفكر والبحث والحجة والبرهان، بدل مسايرة هذه العرائض والرد عليها بمثلها. التوقيت.. الاحتجاجات قضية بحجم تعديل أحكام الإرث أو الإبقاء عليها تتطلب، وفق إسماعيل حمودي، الباحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، “حوارا هادئا بين المختصين والخبراء، بعيدا عن الجدل الايديولوجي والتسييس، فهذا الموضوع حساس، ويتطلب معالجة خاصة، دون استفزاز لهذا الطرف أو ذاك”. حمودي رأى، في حديث للأناضول، أن التوقيت الذي أثير فيه النقاش إعلاميا وسياسيا “لم يكن موفقا”، معتبرا أن الأمر “ظهر وكأن هناك جهة ما تريد إحداث ضجيج في المجتمع، يصرفه عن قضايا حيوية أخرى تشغله أكثر تتعلق بطريقة تعاطي السلطة مع الحقوق والحريات، وأساسا الاحتجاجات في أكثر من مدينة”. وزاد بأنه “كلما مر المغرب بمرحلة جمود في النقاش السياسي حول اقتسام السلطة والثروة تنبعث قضايا أقل أهمية تكون ذات طابع هوياتي أو ديني تؤدي إلى اصطفاف علماني/ إسلامي، أو حداثي/ محافظ”، وغالبا يكون النقاش في هذه القضايا موجها من قبل أطراف السلطة، ويصب في صالحها”.