هو استثناء بتاء التأنيث ذلك الذي صنعته هذه السيدة الآتية من قلعة المحافظة في ريف الناظور، لتصبح علما في قلب دائرة الضوء وساحة الحدث الذي يجد طريقه إلى القارئ.. بعدسة “زليخة”. لسنوات طويلة، ظلت زليخة رقما مفردا في مجال الصورة الصحفية، كسر نشاطا ذكوريا بدا أنه ليس قدرا في ممارسة هي فن ومهنة في آن. الحلم قد يكمن في لمح بصر، أو فرصة تهب منفلتة، فتقبض عليها زليخة، لتبدأ رحلة حياة في صحبة آلة التصوير، التي غدت غرفة أرشيف لتاريخ بصري، تسكنه الأحداث وتؤثثه الوجوه التي طبعت الفضاء العام منذ 1997، منطلق مغامرة لم يكن مخططا لها. اليوم، هي ذاكرة حية في المشهد الإعلامي المغربي.. فراشة متوثبة تحلق بعينين نافذتين، مسكونة بولع الالتقاط، حاضرة في كل المواعيد من فعاليات سياسية واحتفاليات فنية وتظاهرات اجتماعية. تمارس مهنتها بشغف قناص يساوره انشراح كلما أسقط فريسة في مرمى بندقيته… لولا أن بندقيتها ومضة "فلاش" رحيمة تقتطع من الزمن حديث الوجوه ولعبة الزوايا والخلفيات أو ببساطة، صورة حدث وقضية.. ليس في طفولة زليخة أسبدون ما يشي بأن مآلها المهني سيكتب رفقة الصور ومختبرات التحميض والفوتوشوب. لكنها تجد في حفريات ذاكرتها شيئا من عشق الألوان والتأمل في المشاهد. خارج فصول الدراسة، كانت هوايتها، برعاية والدتها الراحلة، تعهد الأقمشة بالطرز والتصميم، مما أكسبها ولعا بتنسيق الألوان والأشكال، بينما نهلت من الفضاء الطبيعي الفاتن في مناطق “بني توزين” رؤية المدى وفتنة التفاصيل. كانت زليخة قد حصلت على إجازتها في القانون من جامعة الرباط، وباشرت دراساتها العليا، قبل أن يأتي العرض على جناح الصدفة. فرصة تدريب في التصوير الصحفي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” تحت تأطير معلمها الأول الطاهر الجميعي، لتجد نفسها في غمار تجربة مهنية جرفتها عن مدرج الجامعة، وأورثتها صحبة آلة تصير بحساسية وعشق خاصين، كائنا حيا يخدم فتنة العين. ولأن الصورة الأولى حب أول، فإن ذلك العدد الذي صدر ذات يوم من 1997، حاملا توقيع " ت. زليخة"، يقيم على الدوام في ركن من ذاكرتها.. إنها ولادة ثانية، ولو أنها كانت تخلد حدثا مأساويا، تمثل في حريق شب في عدد من دور الصفيح بالدار البيضاء. وحين أتتها فرصة الالتحاق بالوظيفة العمومية، بناء على شهادتها الجامعية، كان الفيروس قد توغل بما يكفي في حنايا زليخة لتقول "لا… لا أقو بعد على سجن مكتب مغلق وجدران مطبقة". لا تريد زليخة وهي التي حلت أنثى وحيدة في ساحة رجالية بامتياز، أن تعزف لحن الضحية. بالعكس، " كنت أشعر أني أخت للزملاء الذين كانوا يعدون على رؤوس الأصابع، في زمن لم تكن الصحف تولي اهتماما بالصورة". لكن عبارة ظلت تحفر في حناياها عميقا، لعلها زلة لسان من زميل لها، حين سألها عن راتبها في الجريدة، فبدا له مجزيا في تلك الأيام: "ذلك لأنك امرأة…."، قال لها. الصورة تخيف بقدر ما تغوي الكثير من السياسيين ونجوم الحياة العامة، غير أن عدسة زليخة بنت علاقات ثقة وصداقة مع شخصيات بكل ألوان الطيف، لأن الصورة ظلت في عرفها موجهة لخدمة الخبر والحدث، لا لتصيد أوضاع ومشاهد ترفع منسوب الإثارة في الصحيفة. لكن اسم عبد الرحمان اليوسفي له رنة خاصة في سمع التي يناديها “ابنتي”. تحكي ارتباكها وهي تغطي اجتماعا ترأسه كوزير أول لحكومة التناوب. " كان جميع الحاضرين من الرجال. لكن السي عبد الرحمان انطلق قائلا: "سيدتي.. سادتي…. اندهش الجميع والتفتوا يبحثون عن المرأة المخاطبة التي لم تكن على طاولة الاجتماع بل في زاوية لالتقاط الصور". وفي مناسبة أخرى، لم يتحرج الكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي من معاتبة ودية للمصورين الذين كانوا يتدافعون لاحتلال الزوايا المناسبة: " افسحوا مكانا لزميلتكم أيها السادة…إنها وحيدتكم". تذخر أيضا شعور امتنان خاص للسياسي والإعلامي الراحل محمد العربي المساري الذي قال يوما لمديرها في مكتب الرباط: " استوصوا خيرا بزليخة. إنها تمسك آلة التصوير بحنان امرأة". تذكر أنه كان يحرص على تزويدها بكل ما يستطيع الحصول عليه من كتب حول فن التصوير عموما، والتصوير الصحفي بشكل خاص. تفضل زليخة الصورة السياسية، توثيق اللحظات الكبرى في حياة البلد والمؤسسات والأشخاص، رغم انفتاحها في مرحلة من حياتها المهنية على الصحافة النسائية والفنية في ذروة حيويتها مع بداية الألفية. فعلت ذلك بتشجيع من صديقتيها الصحفيتين سميرة مغداد وعزيزة حلاق، لكنها تعترف أنها تجد نفسها أكثر في اللحظة السياسية. فلقاءات السياسيين، تعابير وجوههم ليست صورا للراهن بل للمستقبل، تنبئ بما قد يحدث غدا. أما ولعها الأكبر فيظل البورتريه. ويتساءل محبوها متى يحين أوان معرض تبعث فيه صور الوجوه التي تسكن أرشيفها المبعثر. عشرون عاما مضت سريعة وحافلة في ذات الوقت. شريط أحداث وشخصيات. بعض الصور سليلة القلب لا البصر. مشاهد زلزال الحسيمة 2004 كانت مكلفة نفسيا.. جرحها لم يندمل بعد. صورتها للتعديل الحكومي في عهد التناوب جالت المنابر الصحفية.. بتجربتها وكفاءتها وشبكة علاقاتها التي نسجتها عبر عقدين من الزمن، كان يمكن للتي تقيم حتى اليوم في شقة مكتراة بحي شعبي في سلا، أن تحول آلتها إلى أصل تجاري يكسبها ثروة سريعة ووجاهة في متناول اليد. ولكنه اختيار “زليخة”. *نزار الفراوي