يتزامن 17 فبراير من كل سنة مع ذكرى ميلاد اتحاد المغرب العربي، بكل ما تحمله هذه الذكرى المهمة من معان تاريخية ومن تطلعات صادقة تطمح إليها الشعوب المغاربية، انطلاقا من إيمان هذه الشعوب بالمثل المغاربية، وهي مثل تستمد جذورها من التاريخ المشترك، والانتماء الجغرافي، ووحدة الدين والمصير. إلا أن الشعوب المغاربية لا زالت تتنظر تحقق هذا الحلم على أرض الواقع. وقد ساهمت هذه العوامل بدور مباشر وفعال في النضال المشترك لدى رواد الحركة الوطنية بالمغرب العربي منذ دخول الاستعمار إلى شمال إفريقيا، وكرست الشعور لدى الشعوب المغاربية بضرورة التضامن وتنسيق الجهود فيما بينها بمختلف الوسائل من أجل كسب معركة التحرير وإضفاء البعد الإقليمي الوحدوي الواسع على نضالهم، وقد نجحوا في تحقيق ذلك. كما ساهمت هذه العوامل المشتركة – عقب بدء حصول الدول المغاربية على استقلالها – في ظهور بوادر مسار العمل المغاربي، منذ مؤتمر طنجة لعام 1958، الذي يعد أهم محطة من محطات البناء المغاربي، حيث أكد على أن المشروع المغاربي خيار استراتيجي انتهجه الآباء المؤسسون منذ معركة التحرير لإجلاء المستعمر، قبل أن تتوطد معالمه في قمة زرالدة التاريخية في 10/06/1988، وتترسخ مبادئه كمشروع اندماجي جهوي بمراكش يوم 17/02/1989 . فاتحاد المغرب العربي بناء حضاري ومشروع طموح في طور الإنشاء والتأسيس وقد تعلقت به كل الأجيال المتعاقبة. واليوم ونحن نحتفل بالذكرى(29) لميلاده، لابد من التذكير بأن قمة مراكش شهدت ثلاثة أحداث في الآن ذاته، تتمثل في الإعلان عن قيام الاتحاد، والتوقيع على معاهدة إنشائه إلى جانب الإعلان عن البيان بالمصادقة على برنامج عمله، ويعد هذا البيان العمود الفقري لسائر العمل الاتحادي وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي ترمي كلها إلى الإسراع في تحقيق هذا الاتحاد وجعله قطب تنمية وأمن واستقرار. وقد توزعت حصيلة البناء الاتحادي منذ التأسيس على تقوية اللحمة المغاربية، وتشكيل كتلة متجانسة وازنة، في علاقات الاتحاد مع التجمعات الإقليمية والدولية، حيث أصبح محاورا مع الاتحاد الأوروبي، ومجموعة 5+5، ومع الولاياتالمتحدةالامريكية، وقد أضحت الدبلوماسية المغاربية على قدر متقدم من النجاعة والفاعلية في الفضاء الإفريقي وغيره من الفضاءات الدولية والإقليمية. كما نجح الاتحاد في استكمال منظومته المؤسساتية، حيث شرعت هذه المنظومة في الاضطلاع بمهامها، فتم تنصيب الأمانة العامة بالعاصمة المغربية الرباط، ومجلس الشورى بالعاصمة الجزائر، والهيئة القضائية بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، والجامعة المغاربية والأكاديمية المغاربية للعلوم بالعاصمة الليبية طرابلس، والمصرف المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية بالعاصمة تونس، وسيكون لهذا الأخير دور مهم في المساهمة في تنمية التجارة البينية وحركة الاستثمار في الفضاء المغاربي. وبخصوص العمل المغاربي الميداني، فقد انكبت الجهود، وما تزال، من خلال عمل اللجان الوزارية المتخصصة الأربعة (الأمن الغذائي، الاقتصاد والمالية، البنية الأساسية، التنمية البشرية) على تحقيق درجات متقدمة من التكامل في مجال بناء القدرات البشرية مع التركيز على ملف الشباب، وذلك من خلال وضع استراتيجية مغاربية مشتركة تعنى بمشاغل الشباب، وإنشاء مؤسسات شبابية للتقريب بين الشباب المغاربي، مع إعداد برامج تنفيذية تهدف إلى تنشئة أجيال تؤمن بالمشروع المغاربي وتتمسك بالمثل المغاربية العليا، وقد أنجزت الأمانة العامة للاتحاد دراسة حول أوضاع الشباب المغاربي. وفي مجال البنية التحتية، تم مد الطريق السيار المغاربي، وتشغيل كابل الألياف البصرية المعروفة بشبكة ابن خلدون، وأحرز تقدم في الدراسات الخاصة بالقطار ذي السرعة العالية… وفي مجال الأمن الغذائي، أنجز الكثير فيما يتعلق بمقاومة التصحر والآفات الزراعية والحيوانية والبيئية وغير ذلك من البرامج المغاربية المشتركة لتحقيق التنمية. وفي مجال التجارة، تم التركيز بالخصوص على مواصلة إعداد البروتوكولات المرفقة بمشروع اتفاقية إقامة منطقة للتبادل الحر بين دول الاتحاد وتتعلق بالتقييم الجمركي ونظام تسوية النزاعات وقواعد المنشأ. ووعيا بالمخاطر الأمنية الإقليمية وانعكاساتها على المنطقة المغاربية، خاصة منها تفشي ظاهرة الإرهاب وتهريب المخدرات وانتشار السلاح والجريمة المنظمة، حظيت إشكالية الأمن باهتمام خاص على المستوى المغاربي، فقد عقد وزراء خارجية الاتحاد دورة استثنائية بالجزائر يوم 09/07/2012 خصصت لدراسة إشكالية الأمن، ودعت في “بيان الجزائر” إلى “ضرورة مكافحة المخاطر التي تهدد المنطقة المغاربية في إطار مقاربة متكاملة ومندمجة ضمن استراتيجية شمولية تدمج البعد التنموي المقرون بالروح التضامنية والبعد الديني والثقافي والتربوي المستند على مبادئ الاعتدال والوسطية”. وإدراكا لما تواجهه الدول المغاربية من تحديات مشتركة سواء منها التهديدات الأمنية العابرة للحدود أو الاقتصادية أو الاجتماعية المرتبطة بالخصوص بتفشي ظاهرة البطالة في صفوف الشباب وتعثر البرامج التنموية، فإن العمل المغاربي المشترك أصبح يتطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى، مزيد التعاون والنسيق ووضع المصلحة المغاربية فوق كل الاعتبارات. ولا مراء في أن تحقيق الاندماج الاقتصادي المغاربي سوف يساهم في تحقيق النمو في اقتصاديات الدول المغاربية، مما يساعد على مواجهة الأزمات والصعوبات الاقتصادية التي تعرفها اقتصاديات الدول المغاربية، الناتجة بالخصوص عن الأزمات المالية والاقتصادية الدولية المتتالية. وإذا كان عام 2017 قد تميز بالعديد من الأنشطة والإنجازات التي انصبت كلها في اتجاه استكمال البناء المغاربي وتثبيت قواعده وتنشيط هياكله ومؤسساته وتحقيق غاياته وأهدافه، فإن الأمل مازال معقودا على نجاح الجهود التي تبذلها الأمانة العامة للاتحاد، منذ فترة، من أجل عقد الدورة 35 لمجلس وزراء الخارجية الذي يعد لعقد الدورة السابعة لمجلس الرئاسة، خصوصا وأن هذه الجهود قد تعززت بالنداء المهم، الذي وجهته المؤسسات الاتحادية المغاربية الخمس في أعقاب الاجتماع الأول من نوعه، الذي احتضنته الأمانة العامة بمقرها في الرباط يوم 10/10/2017، حيث عبر ممثلو هذه المؤسسات عن اقتناعهم الكامل بأن التآم الدورة السابعة لمجلس رئاسة الاتحاد كفيل بتجاوز التباين والخلافات من أجل حل المشكلات القائمة والتغلب على المعوقات، الأمر الذي يمكن لا محالة من فتح الباب واسعا أمام تحقيق الأهداف النبيلة والغايات السامية التي تأسس من أجلها الاتحاد. وفي انتظار أن يصل نداء المؤسسات الاتحادية المغاربية، الذي عبر بصدق وإخلاص عن مطلب الشعوب المغاربية بكافة أطيافها وفئاتها إلى وجهته السامية، فلا أقل من أن نحافظ على ما تحقق، حتى الآن من مكتسبات وأن نعض عليها بالنواجذ، حتى تتهيأ الظروف المناسبة لمواصلة المسيرة، عملا بمقتضيات الحكمة المأثورة “المحافظة على الموجود أولى من طلب المفقود”.