إنها من المرات النادرة التي خاطب فيها الملك محمد السادس شعبه خارج المناسبات الرسمية المعهودة. كل شيء كان مختلفا مساء ذلك اليوم: لغة الخطاب، ملامح الجالس على العرش، مضمون الرسالة، وولي العهد الذي جلس إلى يمين والده لأول مرة في خطاب رسمي... كان طبيعيا أن يتابع المغاربة والشباب تحديدا خطاب ذلك المساء. الرأي العام كان ينتظر جواب الملك عن 54 تظاهرة نزلت في يوم واحد إلى شوارع المملكة، بشعار واحد، وبمطلب واحد، وأسلوب حضاري وسلمي ملخصه: «لقد تعبنا من ديمقراطية الواجهة، وإصلاحات الهامش، وتحكم القلة في رقاب الأغلبية. نريد ملكية برلمانية حديثة على الطراز الأوربي، وحكومة قوية على شاكلة ما نراه في الدول المتقدمة، وبرلمانا حيا يتفاعل مع نبض المجتمع، لا جثة محنطة في قاعة خشبية كئيبة. نريد سياسة بلا فساد، واقتصادا بلا ريع، وأمنا بلا قمع، ومخابرات بلا تعذيب، ولا تجسس على الهواتف بالليل والنهار. نريد إعلاما حرا بلا قيود. نريد قضاء لا يستمع إلا إلى نداء الضمير، ولا يتأثر بالتعليمات القادمة من فوق. نريد انتخابات لا يعرف أحد نتيجتها قبل إجرائها. نريد أحزابا ونقابات كالأحزاب والنقابات، لا كائنات مستنسخة، ونريد وطنا يتسع للجميع، ولا يتحكم فيه خمسة أو ستة أشخاص في مربع ضيق لا يمر أي قرار دون طابعهم السلطوي الخاص»... بعد مرور 16 يوما على هذه الرسالة القوية، التي شكلت النسخة المغربية من الربيع العربي الذي أطل على المنطقة قبل ثلاث سنوات، خرج الملك على شعبه فكان رده كالتالي: «لقد ارتأينا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند إلى سبعة مرتكزات أساسية: أولا: التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة. ثانيا: ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية... ثالثا: الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه. رابعا: توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال: برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، مع توسيع مجال القانون... حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، تحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة عن الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي، ودسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته. خامسا: تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية والمجتمع المدني. سادسا: تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة. سابعا: دسترة هيئات الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات». (انتهى الاقتباس من الخطاب الملكي). بعدما سمعتُ هذا الخطاب مساء 9 مارس، قلت للأصدقاء والزملاء الذين كانوا معي: «لم يبق للملك إلا أن يقول: أنا موافق على الملكية البرلمانية»، ثم كتبنا في هذه الجريدة في الغد نؤيد مضامين هذا الخطاب، معتبرين إياه مفتاحا مهما لحل إشكالية التحول الديمقراطي في المغرب، تحت شعار: «إصلاح البيت من الداخل عوض هدمه من الخارج، وإعادة بناء واحد آخر مكانه، لا نملك ضمانات على أنه سينجح، أو سيكون أفضل من ذلك الذي هدمناه لأي سبب من الأسباب. مجتمعنا محافظ، وبه أعطاب كثيرة، وانقسامات كبيرة، ونخبه ضعيفة، وحداثته شكلية، ولهذا فإن النموذج الإنجليزي في الدمقرطة والتحديث هو الأقرب إليه من نموذج الثورة الفرنسية التي شنقت آخر قس بأمعاء آخر ملك... كان هذا رأي الأغلبية الصامتة التي صفقت لحركة 20 فبراير، لكن عندما وعد الملك بالإصلاح الهادئ من الداخل صدقته وأعطته فرصة لذلك (هذا من أهم أسباب انحسار قوة الحركة في الشارع). اليوم هناك أشياء تحققت من هذا الخطاب وهذا الوعد، لكن هناك أشياء أخرى لم تتحقق، وشعارات لم تنزل إلى أرض الواقع. البعض يقول إن زمن الإصلاح طويل، ويحتاج إلى وقت وصبر، والبعض يقول إن خطاب 9 مارس كان مسكنا للألم انقضى مفعوله بانقضاء الألم، والبعض يقول إن ضعف النخب والأحزاب السياسية هو ما جعل من خطاب 9 مارس عشر درجات لم نبلغ منها إلى الآن سوى ثلاث أو أربع، وإن حكومة بنكيران المستأمنة على الوثيقة الدستورية باعتها للنظام مقابل المشاركة في السلطة والتطبيع مع القصر... بلا شك لم نر بعد كل وعود خطاب 9 مارس، لكن من السابق لأوانه الحكم النهائي على الرعد الذي قطعته الدولة على نفسها بإدخال المملكة إلى نادي الدول الديمقراطية.