من المفارقات اللّافِتة للانتباه أن الجامعة العربية اليوم، هي أقدم منظمة لما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رأت النور قبل الأممالمتحدة بشهور، وقبل إنشاء "الجماعة الاقتصادية الأوروبية، وبعدها الاتحاد الأوروبي"، بسنوات، وأقدم من كافة المنظمات الإقليمية المتناثرة في بقاع العالم.. بيد أن الجامعة العربية، وهذا هو الوجه الآخر للمفارقة، في مرآة المنظمات الدولية والإقليمية توجد في وضع لا تُحسد عليه، ومعها ومن خلالها يشكو النظام الإقليمي العربي من عِلَل ومصادر ضُعف عَزّ على نُظرائه من النظم أن تشكو منها. لينظر معي القارئ الكريم في حال مجمل وحدات النظام الإقليمي العربي، أي دولُه، ولنتأمل سوياً في أوضاع الكثير من مجتمعاتها، لا سيما في العشرين سنة الأخيرة، وبشكل أكثر مأساوية منذ مستهل العام 2011. ولعل هذا الذي يفسر لماذا عَلت أصوات الكثيرين من أجل امتلاك الجرأة للإعلان صراحة عن موت النظام الإقليمي العربي المُؤسّس بعد الحرب العالمية الثانية تحت مُسمى "الجامعة العربية"، ولتدفع هذه الجرأة بقوة في اتجاه انبثاق نظام جديد، بفلسفة مُغايرة ورؤية جديدة، وأدوات عمل مُبتكرة وفعالة. ولتكن المصادر الحاسِمة في صياغة الفلسفة والرؤية الجديدتين مُتمحورة حول المصلحة الحقيقية المشتركة للدول والمجتمعات، لا على أساس المقومات الجامِعة من دين ولغة وتاريخ على أهميتها في تقوية نسيج النظام الإقليمي العربي. لننظر بعمق، وبقدر كبير من ترجيح العقل لا العاطفة، إلى التجارب الناجحة في العالم، وكيف لعبت مشاريع التوحيد المؤسَّسة، على المصلحة المشتركة الواعية والمدروسة، أدوارا مفصلية في مراكمة النجاحات، والمضي قُدما بدولها ومجتمعاتها نحو الرفاهية المشتركة. ليستحضر معي القارئ الكريم كيف نَبعت فكرة الجماعة الأوروبية من تفكير ثاقب لآباء مؤسسين، نذروا جزءا يسيرا من حياتهم لخدمة مشروع البناء المشترك، وإنجاح خُطواته التأسيسية، من قبيل الخبير الاقتصادي الفرنسي Jean Monnet، ورئيس الوزراء البريطاني السابق Winston Churchill، ورجل السياسة الهولندي Johan Willem Beyen، ورجل السياسة Joseph Blech من دولة اللوكسمبورغ، ومستشار الجمهورية الفدرالية لألمانيا Konrad Adenauer .. والقائمة طويلة من الرواد الذين كان لهم فضل رسم طريق النجاح لنظامهم الإقليمي الأوروبي. لنتأمل ملياً في التغيرات الكبيرة التي طالت العالم، ومعه المنطقة العربية، منذ إنشاء الجامعة العربية عام 1945. فبلغة الأرقام تشكل ساكنة البلاد العربية دون سن الثلاثين 70 في المائة، أي ما يقرب من ثلثي الساكنة العربية وُلدت مع منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أي ما بعد تأسيس الجامعة العربية بأربعة عقود، وهي بذلك لا تعرف عما سُمي "بيت العرب"، وسياق تأسيسه، والأهداف التي يروم تحقيقها إلا كصور من الماضي، أو وقائع متسلسلة في التاريخ. وبالمقابل، تتطلع أن يكون هذا البيت، أسوة بالفضاءات الناجحة في العالم قوياً وفعالاً وأن يُناظر غيره في المكاسب والإنجازات. ثم تزداد حُرقة هذه القوة البشرية حين ترى أمامها ثروات هائلة تتبدد كل يوم، ويتآكل رصيدها بالتدريج، سواء في الاقتصاد، أو في الاجتماع البشري، أو في الفكر والمعرفة والثقافة. إن الحاجة ملحة إلى إعادة بناء النظام الإقليمي العربي على أسس جديدة، تسمح له بالبقاء والاستمرار في الألفية الجديدة، هذا إذا كان في الإمكان إعادة بنائه. لا تظهر، مع الأسف، معالم السير قُدماً في طريق النظام الإقليمي العربي المطلوب واضحةً وسالِكةً. كما لا تبدو المجتمعات العربية ونُخبها على قدر كاف من الاقتدار والكفاية، جاهزةً لتيسير انبثاق هذا النظام الجديد. فما هو حاصل الآن، ويزداد رسوخاً كل يوم، تلاشي واندثار ما تبقى من النظام الإقليمي العربي المتراجع باستمرار، لصالح ثقافة جديدة تنكرت لكل شيء، ورفعت من شأن التفكك الطائفي، والتمزق المذهبي، وكل ما في مُكنه إضعاف الهوية والزجّ بها تدريجيا للانتساب لهُويات جديدة، لم يعرفها النظام الإقليمي العربي، ولا تصلح لإعادة بناء نظام إقليمي عربي جديد.. ومن هنا تتبين صعوبات ضمان انبثاق نظام إقليمي عربي جديد.