في الإعداد لمؤتمر القمة العربية القادم أواخر الشهر الجاري في الدوحة، تتسارع خطى المصالحات العربية بين ما يسمى محوري «الاعتدال» و»الممانعة»، وآخرها كانت زيارة الرئيس السوري إلى عمان عقب مؤتمر القمة المصغر في الرياض، والذي جمع زعماء السعودية ومصر وسوريا والكويت. ورغم ما تثيره هذه المصالحات من آمال عند قطاعات واسعة من الرأي العام العربي القلق على مصير بلدانه في مواجهة تحديات استراتيجية واقتصادية متزايدة، فإن قليلا من العرب من يعتقد بوجود إمكانية لتحقيق تفاهم جدي يصدر عنه موقف عربي جديد مشترك. وبالمقابل تسيطر على الجميع فكرة أن المصالحة تتعلق بالاتفاق على طريقة أقل عنفاً في حل الخلافات القائمة والتي ستظل قائمة، أكثر مما تتعلق بتجاوز الخلافات العميقة التي تشتت جهود الدول العربية. والسؤال الذي يستحق الطرح في هذه المناسبة ليس من النوع الذي يبحث عن الأسباب التي حفزت الزعماء على التقارب في هذه اللحظة بالذات أو إظهار التقارب فيما بينهم. فهو تقارب يبقى دون حدود ما هو مطلوب لإطلاق سياسة عربية مشتركة أصبحت أكثر من ضرورية وملحة لمواجهة مسائل التنمية والحفاظ على الاستقلال، وقبل ذلك لوضع حد لمشروع الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي المستمر، رغم مفاوضات السلام وبموازاتها منذ عقود. فلماذا لا يمكن أن يكون هناك تفاهم عربي حقيقي؟ وما الذي منع جامعة الدول العربية التي طرحت نفسها بديلا واقعياً معتدلا لمشروع الوحدة العربية، من أن تتحول إلى منظمة إقليمية فاعلة في التنسيق بين جهود الشعوب الأعضاء فيها، وتوحيد قواها وإطلاق طاقاتها، كما هو حال باقي المنظمات الإقليمية التي تكوّنت من بلدان لا تربطها صلة قرابة ولا لغة ولا دين؟ مشروع الوحدة القومية يفترض وجود أمة قائمة في الوعي والمجتمع... وهي تنزع إلى تجسيد وحدتها الثقافية والاجتماعية في دولة مركزية واحدة! نحن لسنا هنا أمام سؤال الوحدة العربية بالمعنى الذي طرحته الفلسفة القومية التي افترضت وجود أمة عربية واحدة ذات إرادة ورسالة خالدتين، تدفعانها لا محالة إلى تكوين دولة مركزية أو قومية موحدة! وأصل الاختلاف بين مشروع الوحدة القومية ومشروع الاتحاد بين دول مستقلة، هو أن المشروع الأول يفترض وجود أمة قائمة في الوعي وفي المجتمع المدني معاً، أي موحدة في الواقع حتى لو أنها لا تملك بنية دولة سياسية واحدة، وهي تنزع بالتالي إلى تجسيد وحدتها الفكرية والثقافية والاجتماعية في بناء دولة مركزية واحدة... أما المشروع الثاني فهو لا يفترض وجود أي تقارب ثقافي أو إثني أو اجتماعي بين البلدان؛ فهو اتحاد بين دول وشعوب مستقلة تملك كل منها ثقافتها وهويتها الخاصتين، لكنها تعمل معاً للتكتل والتقارب فيما بينها من أجل زيادة منافعها الاقتصادية والاستراتيجية، وتحسين شروط منافستها على الساحة الدولية، وتأمين مناخ أفضل لازدهار شعوبها جميعاً. وقد كان تكوين منظمات تكامل اقتصادي اتجاهاً رئيسياً في العقود الماضية، نجمت عنه ولادة تكتلات ثابتة ومنتجة في جميع القارات، من أوروبا المتقدمة إلى أفريقيا النامية، مروراً بأميركا اللاتينية وآسيا التي قطعت بعض بلدانها شوطاً كبيراً في النمو، فأُطلِقَ عليها إسم البلدان الصاعدة. في إطار ندوة عقدها في الشهر الماضي «مركز دراسات الوحدة العربية»، دافعت عن أطروحة تفيد بأن التقدم نحو مشروع اتحادي أو تكتل إقليمي من هذا النمط يستدعي وجود دولة تتمثل فيها إلى حد ما مصالح المجتمع الأساسية، وأن النخب التي تسيطر عليها وتقودها، تأمل في أن تضفي الشرعية على سلطتها وتمدد أو تجدد لنفسها في الحكم، من خلال تأمين تأييد شعبي أكبر، مما لا يمكن تحقيقه من دون تقديم آفاق وشروط أفضل لتحسين شروط حياة المجتمعات وتقديم إنجازات مادية وسياسية واستراتيجية وطنية لها. وهو ما يدفع بعض نخبها الأكثر نشاطاً وحيوية إلى الاندفاع نحو التكتل والتفاهم وتجاوز الاختلافات والنزاعات التاريخية، كما كان عليه الأمر بين الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، أملا في أن يساهم هذا التكتل في تعزيز نموها الاقتصادي، وضمان استقرارها السياسي، وتوسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية والأمنية. لكن الأمر لا يطرح بالطريقة ذاتها فيما يتعلق بدول لم تكتسب بعد هويتها الحقيقية، ولم تعرف حقيقة الاستقلال والسيادة الوطنيين، كما أن نخبها الحاكمة لا تعتمد في وجودها ولا في إعادة إنتاج سيطرتها، على تأييد الشعوب ودعمها، ولا تعتبر أن هذا التأييد هو الذي يضمن بقاءها في السلطة ويعزز نفوذها في إقليمها. بل بالعكس، إنها تنظر إلى مثل هذا التأييد والالتفاف حول النظام على أنه قيد لها يحرمها من هامش المبادرة الواسع الذي تحتاج إليه تجاه مجتمعاتها من أجل أن تتكيف مع السياسات الدولية التي تضفي على وجودها القوة والشرعية، والتي هي هنا بالضرورة شرعية الموافقة الدولية أساساً. فهي في الغالب دول مستقلة لكن شعوبها منزوعة السيادة، تخضع لنظم تخشى شعوبها بقدر ما تخشى تأسيس سلطتها على الدعم والتأييد الشعبيين. وفي مثل هذه الدول التي تعتمد في ضمان أمنها واستقرارها وإعادة إنتاج وسائل بقائها على الآخر، لا يمكن أن تنشأ سياسة وطنية تقدم مصلحة البلد على مصلحة الحكم، وتضع المصالح العامة فوق المصالح الخاصة، وتنظر إلى تحسين شروط حياة السكان وتأهيل المجتمع للمستقبل... باعتبارها قضايا ذات أولوية تسبق مهام السيطرة أو الحفاظ على النظام والمصالح السائدة فيه. وهكذا يشكل احتكار الموارد شرطاً ضرورياً لبناء طبقة زبائنية تؤمن قاعدة اجتماعية يعتمد عليها النظام، كما يشكل عزل الشعوب عن محيطها وإبقائها في ما يشبه السجن الكبير شرطاً آخر لتكريس سيطرة هذه الطبقة الزبائنية. والواقع أننا في هذه الحالة نصبح أمام نظم يرتبط مصيرها بمصير النخب التي تحكمها، لا بالتفاهم مع شعوبها، ويقوم استقرارها على التفاهم مع الدول الكبرى لا على ما تقدمه لمجتمعاتها. وهكذا فهي تتغذى على مفهوم «الشرعية» الدولية وتعيش عليه أكثر بكثير مما تطمح إلى بناء شرعية وطنية داخلية، وتخاف من ابتعاد الدول الكبرى عنها أو مجافاتها لها أكثر مما تخشى من الداخل. لذلك ليس من المفارقة القول إن الوصول إلى صيغة اتحادية بين الكيانات العربية المتنافسة على المواقع الإقليمية، ليست أكثر احتمالا من الصيغة الاندماجية التي توهمناها في الماضي، إن لم تكن أكثر إشكالية منها.