للوهلة الأولى، قد تبدو الضجة التي أثارها سماح نظام السعودية المتشدد للمرأة بقيادة السيارة، مبالغا فيها بالنسبة إلى من تعودن في بلدان أخرى على الضغط على زر المفتاح وفتح باب السيارة، ثم الانطلاق بها بما يشبه اللا مبالاة. فلا شيء حقا يستحق الانتباه في نشاط صار روتينيا لدى بنات حواء العالم بأسره، ما عدا طبعا بالنسبة إلى اللواتي أراد لهن حظهن العاثر أن يعشن في مناطق تسيطر عليها داعش أو طالبان، أو أنظمة متشددة مثل السعودية. بل قد يكون الأمر باعثا على الأسى والإحباط بالنسبة إلى كثيرين آخرين، فإحداث كل هذه الصخب الإعلامي فقط، لأن النساء في السعودية بات من حقهن الإمساك بمقود سيارة دون الخوف من التعرض للعقاب، يكشف حقا درجة تأخر هذا المجتمع السعودي وكل المجتمعات الإسلامية، رغم كل مظاهر العصرنة الزجاجية الباردة التي ليست في نهاية المطاف سوى خدعة بصرية. والواقع أن ما حدث يعتبر فعلا "ثورة"، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الحكم الديني في السعودية، وكذلك النظرة إلى المرأة هناك، وفي كل أرجاء هذا العالم الإسلامي والعربي الممتد من هناك إلى هناك. فالسياقة ليست مجرد نشاط مجتمعي روتيني، بل هي تؤشر على: أولا، الاستقلالية، في ظل مجتمع ذكوري يقوم على عقيدة (بمعنى DOCTRINE) تعتبر المرأة كائنا قاصرا من المهد إلى اللحد، وكائنا ناقصا لا يكتمل بوجوده سوى في ظل الذكر. ثانيا، التحرر ولو نسبيا، في ظل مجتمع يعتقل المرأة في سجون متعددة ومتراكبة، تبتدئ من العباءة السوداء (قسرا)، ولا تنتهي عند جدران البيت. ثالثا، "امتلاك الخارج" الذي كان وما يزال – بشكل أو بآخر- حكرا على الذكر ومحرما عليها، ولا يجوز لها "الانتقال" إليه إلا مدثرة بالسواد أو بظل ذكر ومحفوفة ب"إذنه/ ترخيصه". رابعا، الانتقال من التبعية إلى القيادة. فالمرأة مازالت مجرد تابع للذكر، لا يحق لها القيام بأي شيء دون إذنه، ورضاه. إن السماح للمرأة بالجلوس وراء مقود السيارة في مجتمع محافظ جدا، في عمقه وإن بدا "عصريا" في مظهره، يعد حقا خطوة صغيرة، ولكن مهمة، على الدرب الوعر والمضني والطويل المفضي، بعد زمن طويل، إلى "بعض" من الحداثة بمعناه العميق.. الحداثة التي يتحول فيها الفرد إلى المقدس الوحيد والأساسي، وليس الدين وتأويلات الدين، وليس التقاليد وكل ما يتوارث عن التقاليد. إنها كوة صغيرة في جدار سميك غير مرئي تحتاج إلى كثير من المعاول لتوسيعها قدر الإمكان، أما هدم الجدار نفسه، فيحتاج إلى….