كانت جميلة تتخذ مكانها في طابور طويل في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الفائت كي تضمن فرصتها في ولوج معبر باب سبتة في الصباح الباكر لليوم الموالي. جميلة سيدة تبلغ من العمر 44 عاما، وتنحدر من مدينة الفنيدق، وتعمل في حمل السلع المهربة عبر الحدود من سبتة منذ سنوات خلت، لكن المبيت في العراء ليلا في الباحة الكبيرة خارج معبر باب سبتة كان أمرا جديدا عليها، مثل باقي النساء اللائي يعملن في التهريب بسبب التغييرات المستمرة في سياسات ولوج المعبر من لدن السلطات المغربية عقب وفاة سيدة بداية فصل الصيف. بيد أن جميلة لم تكن تقلق كثيرا بسبب هذا، لأن ما كان يشعرها بالقلق أكثر هو مخاوفها من أن تُحرم من فرصة العمل بسبب مستجد غير معهود: الهجمات المتتالية للمهاجرين المنحدرين من دول جنوب الصحراء على المعبر في محاولات لاقتحامه لدخول مدينة سبتة. هجوم مباشر! بعد ساعة من وجودها هناك، تيقنت جميلة أن كابوسها سيتحقق بالفعل، فقد أخبرهن ضابط شرطة بأن قرارا للسلطات صدر بإيقاف عمليات ولوج سبتة لأسبوع كامل بسبب هجمات المهاجرين. وفي ذلك اليوم الذي أعقب توقفا عن العمل لمدة عشرة أيام بسبب أعياد خاصة بالإسبان، كانت جميلة تحس بمشاعر متناقضة إزاء ما يحدث من حولها، فهي تشعر بالتعاطف نحو مشكلة المهاجرين، لكنها تحس بأن وضعها قد أصبح سيئا للغاية بسببهم. قالت لنا: «لم يكن ينقصنا سوى هذا.. عشرون يوما كاملة لم نتلق فيها أي سنتيم». والكثير من العاملين في التهريب يشاركونها هذه المشاعر. وتضيف: «إذا لم يستعد معبر باب سبتة هدوءه هذا اليوم (الأربعاء)، فإن مدة التوقف ستطول أكثر. أسبوع إضافي على هذا النحو، وسيصبح الوضع منذرا بأزمة». العاملون في التهريب المعيشي، البالغ عددهم نحو ثلاثة آلاف، والذين يجنون تعويضات تتراوح بين 700 و900 درهم كل يوم يستطيعون فيه ولوج سبتة ونقل رزم من السلع إلى البلاد، هم الوجه الخفي لأزمة المهاجرين المنحدرين من دول جنوب الصحراء، ويتخوف البعض من أن تتسبب أزمتهم الحالية في ظهور مشاعر كراهية ضد أولئك المهاجرين. وكما لاحظ «اليوم24»، فإن بعض العاملين في المعبر شرعوا يعبرون عن أنفسهم كضحايا جانبيين لسياسات غير فعالة لمحاربة الهجرة غير القانونية، وهم ينظرون إلى المهاجرين كمصدر شقاء لهم. في الساعة الخامسة من صباح يوم الاثنين الماضي، نجح المئات من المهاجرين في خداع السلطات المغربية التي كانت قواتها المكلفة بمراقبة حركتهم متمركزة على وادٍ بجانب المعبر، وهاجم حوالي 700 مهاجر جنوب صحراوي المعبر من بابه الواسع متدفقين بشكل منظم نحو قلب المعبر، حيث الأبواب الحديدية كانت مشرعة وقتها لتسهيل خروج مئات الأشخاص الذين كانوا يحتفون تلك الليلة بنهاية الكرنفال السنوي لمدينة سبتة. تخطى المهاجرون الباب الرئيس في الجانب المغربي للحدود بكل سهولة لأن شرطيين فقط كانا يحرسانه، وقد تركا موقعهما عندما رأيا جحافل المهاجمين، ولم يكن هناك أي شخص أو شيء يمكنه أن يوقف مسير المهاجرين سوى الباب الحديدي على الجانب الإسباني من الحدود، وقد كان مفتوحا ذلك الصباح، وتحت وقع المفاجأة، لم ينجح رجال الشرطة القلائل، الذين كانوا هناك، في إغلاقه في الوقت المناسب، وتمكن 187 مهاجرا من الولوج، وقد أعطى رجال الشرطة لمهاجرين متأخرين عن باقي رفاقهم فرصة للولوج أيضا، كما أظهرت لقطات شريط فيديو مراقبة. أما باقي المهاجرين، فقد وصلوا متأخرين بوقت أطول، وكان الباب قد أغلق، والتعزيزات قد وصلت. عادة، تحتفظ السلطات الإسبانية بتعزيزات كبيرة على جانبها بهذه الحدود طيلة فترة الاحتفالات التي تمتد من فاتح غشت حتى السابع منه، وقد كانت هذه التعزيزات موجودة هناك تلك الليلة، لكنها غادرت قبيل تنفيذ المهاجرين هجومهم الكبير. سيشرح لنا شرطي يعمل بفرقة الشرطة الإسبانية أنهم نقلوا على عجل إلى منطقة على الحدود، حيث يوجد السياج الفاصل تبعا لمعلومات عن هجوم وشيك للمهاجرين من هناك. لم يحدث أي هجوم أو تجمع للمهاجرين في تلك المنطقة، ولم يسقط الإسبان ضحية لخدعة نفذها المهاجرون أنفسهم. وغالبا، فإن الإسبان قرروا تعزيز وجودهم على السياج معتقدين أن السلطات المغربية قد أمنت جانبها في معبر باب سبتة بشكل لا يستطيع معه المهاجرون اختراق الحدود، وهذا ما أخبرنا به ضابط شرطة مغربي يعمل في باب سبتة. «لقد كانت مشكلة بالنسبة إلى الجميع في تلك الليلة.. لم تكن هنالك أي معلومات جدية عن هجوم وشيك». وبالفعل، فإن أسلوب المهاجرين المعتاد لم يكن هو الهجوم مباشرة على معبر باب سبتة، وقد فشلت محاولتان العام الماضي، ومنذ ذلك الحين، ركزوا على تسلق السياج الفاصل. سر الحشود المشكلة ليست في وقوع هجوم واحد وناجح وغير متوقع، بل في تكراره اليومي تقريبا منذ الاثنين. مثلا، ولج العاملون في التهريب بشكل عادي يوم الثلاثاء إلى سبتة، لكن في الليل هاجم مئات من المهاجرين المعبر، ويوم الأربعاء فعلوا الأمر نفسه، ثم يوم الخميس فالجمعة، فيوم الاثنين الماضي كذلك. «هذا أمر غير مسبوق»، كما يقول ضابط شرطة مغربي. لكن المحاولات التالية فشلت جميعا بسبب قدرة السلطات المغربية على محاصرة الهجوم في مناطق متفرقة. يوم الخميس الماضي، هاجم مئات من المهاجرين المعبر بالطريقة نفسها كما فعلوا يوم الاثنين ما قبل الماضي، لكن القوات المغربية، التي كانت متمركزة على التل المطل على المعبر، نجحت في تمزيق الحشد إلى مجموعات، ثم لاحقا سيطرت على الباقين في الحاجز الأول، حيث كان مئات من عناصر القوات المساعدة مستعدين للهجوم. وطيلة الوقت الذي استغرقته عملية إيقاف الهجوم من لدن السلطات المغربية، كانت طائرة هليكوبتر للحرس المدني الإسباني تحلق على علو منخفض لمراقبة تطور الأوضاع على الأرض. والطريقة التي يتجمع بها المئات من المهاجرين المنحدرين من دول جنوب الصحراء في مكان واحد لتشكيل حشد مندفع بسرعة نحو الحدود ليست لغزا، فهناك شبكات ترعى وتنفذ خطط الاقتحام. وقد التقينا شخصا على صلة بإحدى هذه الشبكات، وأخبرنا بأن تعاونا كبيرا «على ضفتي الحدود» بين أفراد هذه الشبكات التي ينحدر أعضاؤها من دول جنوب الصحراء، يجعل من تجميع المهاجرين وتنظيم تدفقهم عملا تكتيكيا يوازي تقريبا مقدرة سلطات البلدين على ملاحقة هذه العمليات. «يراقب أفراد من هذه الشبكات تمركز القوات المغربية على الحدود، ويتتبعون حركتها باستمرار، فيما أفراد آخرون يراقبون وضعية الجاهزية لدى السلطات الإسبانية على الجانب الآخر من الحدود». ويضيف: «يستطيعون تقدير المكان والتوقيت المناسبين لتنفيذ هجوم ناجح.. إنهم يحركون كل شيء عبر الهواتف». «هناك عمل كبير يجب فعله»، كما قال لنا ضابط الشرطة المغربي، ويبدأ بمراقبة محيط معبر باب سبتة باستمرار، ثم التمشيط المستمر وتوقيف المهاجرين قبل تجمعهم. ويعيش المئات من المهاجرين في الغابات المحيطة بالحدود، وأخفقت كافة عمليات التمشيط في إخلائهم من المكان بصفة نهائية. فالمهاجرون الذين يجري توقيفهم في عمليات التمشيط ينقلون عبر حافلات إلى وجهات داخل البلاد، لكنهم سرعان ما يعودون إلى منطقة الحدود. في الأسبوع الماضي، أوقفت السلطات المغربية نحو 600 مهاجر كانوا بصدد الهجوم على المعبر، وألقي القبض على بعضهم وهم مختبئون في الغابات المجاورة أو في شوارع مدينة الفنيدق نفسها. وفي بعض الحالات، كانت عمليات التوقيف تتسم ببعض العنف من لدن القوات المغربية، كما يظهر فيديو صور هجوم يوم الخميس الماضي، لكن المهاجرين أنفسهم يستخدمون في كثير من الأحيان وسائل عدوانية في تنفيذ هجماتهم. في هجوم الخميس، نقلت سيارات الإسعاف إلى المستشفى المحلي بالفنيدق عدة جرحى من رجال الشرطة والمواطنين العاديين أصيبوا بحجارة رشقهم بها المهاجرون الذين يتعمدون فعل ذلك لإجبار القوات العمومية على فتح الطريق. «لقد أصيب صديقي بحجارة في رأسه، وأغمي عليه في الحال، ولم يستيقظ سوى بالمستشفى»، كما يقول زكريا هيدلي، وهو شاب مجاز يعمل في المعبر في بعض الأحيان. ويضيف: «كان جرحا خطيرا، لأن المهاجرين أمطروا المعبر بالحجارة لإخافة الجميع.. إنهم يصبحون عنيفين للغاية». بلال دواس، وهو شاب آخر يعمل في سبتة، يتذكر أنه شاهد مهاجرا يتقدم بسيف كبير حشدا يضم المئات من المهاجرين نحو المعبر: «لم يكن أحد يستطيع الاقتراب منه، وبعدما وصل إلى الحاجز الإسباني أسقط سيفه، واختفى بين الحشود، ولم يستطع أحد تمييزه لاحقا عن الآخرين بعدما أوقفتهم الشرطة المغربية». وقد عاينا أيضا مشهدا مماثلا، حيث أمطر المهاجرون رجال القوات المساعدة بوابل من الحجارة، وهُشمت سيارات خواص كانت مركونة هناك. تسامح قابل للتلاشي يشعر الناس بشكل عام بالتعاطف مع المهاجرين وإن كانت بعض طرقهم مؤذية، كما يصف هيدلي، حيث يقول: «الأمر يمثل معضلة حقيقية، فهؤلاء الأشخاص الذين قطعوا آلاف الكيلومترات من بلدانهم حتى هذه الحدود، مجبرون على فعل أي شيء لتحقيق حلمهم، ونتحول نحن إلى ضحايا جانبيين، لكن لا ينبغي علينا التذمر كثيرا». وفي الواقع، فإن أهالي مدينة الفنيدق، مثلا، يتسامحون بشكل كبير مع هؤلاء المهاجرين في معاركهم مع السلطات. في مقهى بحي المرجا، كان مهاجر يختبئ من رجال الشرطة الذين يمشطون الحي بحثا عن مهاجرين، لكن الزبناء قليلي العدد كانوا، كل مرة، ينصحونه بالاختباء في دورة المياه عندما يرمقون سيارة شرطة قادمة من بعيد. وطيلة الأسبوع الماضي، كان المهاجرون الذين يهرولون في شوارع المدينة لا يلقون أي اعتراض من المواطنين، بل إن بعضهم يتعمد تضليل رجال الشرطة بعيدا عن مكان وجود المهاجرين. بيد أن هذا التسامح سيتقلص حتما إذا أصبحت هجمات المهاجرين تشكل تهديدا لقوت أهالي الفنيدق، الذين يعيش أغلبهم من موارد تهريب السلع. بلال دواس يشرح الأمر قائلا: «يتذمر الناس من المهاجرين عندما يتحول وجود هؤلاء إلى عائق بينهم وبين قوتهم اليومي، وسيتحول المهاجرون إلى مصدر نقمة واسعة». قبل ثلاث سنوات، قام بعض أهالي مدينة الفنيدق بأعمال إخلاء واسعة للمهاجرين من غابات مجاورة بعدما أكدت سيدة مقيمة هناك تعرضها للاغتصاب من لدن مهاجرين اعترضوا طريقها، وقد جرى ضرب مهاجرين وتسليمهم إلى السلطات، وتشكلت فرق محلية تشبه ميليشيات هدفها البحث عن المهاجرين، والقبض عليهم وتسليمهم إلى الشرطة. «من المحتمل أن تتكرر تلك المشاهد»، كما يشير دواس، متذكرا أن العاملين في التهريب قاموا، في إحدى المرات، بمساعدة رجال الشرطة بمعبر باب سبتة على إيقاف هجوم، والقبض على المهاجرين، وحتى ضربهم أثناء ذلك. «إن الناس يشعرون بأن المهاجرين سبب تعاستهم، وليس السياسات المطبقة في المعبر بشكل عام»، يقول دواس، ويضيف موضحا: «القوت اليومي في معبر باب سبتة أصبح مرا في الوقت الحالي، لكنه أفضل من لاشيء بالنسبة إلى الناس الذين ليس لديهم أي شيء آخر يفعلونه غير هذا، وإذا اقتنعوا بأن المهاجرين تسببوا في بؤسهم، فإن الوضع سيصبح منذرا بالسوء دون شك». في الباحة الخارجية لمعبر باب سبتة، بقيت جميلة، مهربة البضائع الفقيرة، جالسة في مكانها غير مهتمة بالتعليمات التي أطلقها ضابط الشرطة المغربي بخصوص إيقاف عملية الولوج إلى سبتة. «ربما لن يحدث هجوم، وسيتغير موقف السلطات، ويتركوننا نلج. إننا في حاجة إلى المال هذا الشهر». وبقيت هناك حتى حوالي الساعة الثانية من صباح يوم الأربعاء، ثم حدث الهجوم المرتقب فعلا، فقررت أن تغادر المكان بعدما تحول إلى ساحة حرب حقيقية. «سأذهب إلى بيتي، وسأعود يوم الأربعاء المقبل.. أرجو أن يكون الحال قد تغير». هل يستطيع الإسبان حماية الحدود وحدهم؟ نقلت صحف محلية صدرت في مدينة سبتة الأسبوع المنصرم، تلميحات منسوبة إلى السلطات الإسبانية بخصوص تراخ مغربي إزاء هجمات المهاجرين على معبر باب سبتة، لاسيما بعد نشر صحيفة «إلموندو» أن السلطات المغربية بعثت بغالبية قواتها، التي كانت متمركزة هناك، إلى الريف لإخماد الاحتجاجات، وهو ما ينفيه مسؤول في الشرطة هناك. وقد تعززت هذه التلميحات بإعلان الحكومة المركزية في مدريد نيتها تطبيق مجموعة من الإجراءات لدعم القدرة الذاتية للسلطات الإسبانية على مراقبة الحدود وحمايتها من أي هجوم من لدن المهاجرين، دون التعويل كثيرا على السلطات المغربية في ذلك. لكن الإجراءات المعلنة حتى الآن، وهي تثبيت كاميرات حرارية، وتعزيز عدد رجال الشرطة والحرس المدني، ليست كافية لضمان حماية مطلقة دون سند مغربي، كما يقول مسؤول في السلطات المحلية بعمالة المضيق-الفنيدق. «كنا دوما يقظين إزاء مشكلة هؤلاء المهاجرين، ولا أعرف ما إن كان الإسبان يخططون لحماية الحدود دوننا، لكن دورنا سيبقى قائما، لأن الأمر يتعلق أيضا بأمن المغرب، ويمكنك أن تتيقن أنه إذا لم تقم القوات المغربية بعملها، فإن سبتة ستغرق في يومين فقط بحوالي 3 آلاف مهاجر».