هناك على مشارف مركز بوكيدان (جماعة أيت يوسف وعلي)، كان الجميع يسير في جنازة بائع السمك محسن فكري، مرددا الشعارات، حاملين بضعة أعلام مشدودة إلى الخيزران، يمسك بها بعض "مستقبلي المشيعين". كانت تلك أعلام "جمهورية الريف" التي حاول محمد بن عبد الكريم الخطابي إقامتها في الريف قبل قرن من الزمن. كانت هذه هي البداية لانتشار هذه الراية التي صارت اليوم لا تخلو منها مسيرة أو وقفة في الحسيمة وفي المناطق المجاورة، وأخذت الأسئلة تتناسل بسببها، ومنها هذا السؤال المربك: هل حراك الريف له توجه انفصالي؟ أياد خفية!؟ من جملة ما صرح به وزير الداخلية خلال الزيارة التي قادته إلى الريف، أخيرا، أن هناك أياد خفية "تلعب" بالحراك الذي يعرفه الريف، وأضاف أمام عدد من المنتخبين والجمعويين بأن هناك من يدس لأنباء المنطقة "السم في الدسم"، ملمحا إلى ما يضمره من يتهمهم ب"اللعب" بمطالب سكان الريف. عادة، عندما تطلق الداخلية تصريحات من هذا القبيل يكون المقصود بها هي جماعة "العدل والإحسان"، التي اتهمتها غير ما مرة ب"تأجيج" الاحتجاجات في عدد من مناطق المغرب، لكن الريف يختلف تماما. هنا لا وجود لجماعة العدل والإحسان على الأرض. فما هي الجهة المقصودة إذن؟ منذ انطلاق احتجاجات الحسيمة والبلدات المجاورة لها، كانت الألسن تأتي على ذكر شخص يدعى "فريد"، الذي يوصف بأنه "وجه بارز بهولندا"، ومن الشخصيات المنتمية إلى "حركة 18 شتنبر" التي تدعو إلى إقامة ما تسميه "الجمهورية" في المنطقة. "منذ انطلاق الاحتجاجات وهو يتردد على المنطقة باستمرار، ويتحرك في كل الاتجاهات"، يقول مصدر "اليوم 24" نشاط "فريد" هذا في المنطقة، جعل العديد من المتتبعين للوضع يتوجسون من وجود دور بشكل من الأشكال لتلك الحركة، خاصة وهم يستحضرون حجم العنف الذي عرفته المواجهات الأخيرة، والذي جعل عددا من المتتبعين لا يستبعدون أن يكون الهدف من هذا العنف غير المعهود هو الحفاظ على بؤرة التوتر مشتغلة بشكل دائم. وما زاد من شكوك هؤلاء كل تلك التحركات التي تجري بالخارج، وبالتحديد بالدول الأوربية التي تتركز بها الجالية المغربية المنحدرة من المنطقة. لكن في المقابل، هناك من يعتبر خطوة الداخلية "ناقصة"، ولم تغط الكثير من البياضات، فالناشط الجمعوي، نجيم عبدوني، الذي يتابع الحراك ويشارك فيه، يؤكد بأن الداخلية يجب أن تكشف عن هذه الجهات التي "تلعب في الحراك"، حماية للذين يشاركون فيه، وعلى اعتبار أن أجهزتها الأمنية لا يمكن أن تخفى عنها أمورا مثل هذه في حالة وجودها، "كيف ذلك وهي وصلت ذات يوم إلى تنبيه دول متقدمة بحدوث عمليات إرهابية"! عبدوني خلص إلى أن الذي يقود الحراك هم أشخاص معروفون لدى الناس، وأن سبب تحركهم هي تلك "التراكمات الاجتماعية" بالمنطقة، و"المفروض في هذه الحالة فتح حوار معهم". مطالب انفصالية؟ من جهته يرى نبيل أحمجيق، أحد قادة الحراك الشعبي بالحسيمة، انه لو كان هناك "توجه انفصالي" فعلا، ف"يجب أن يعبر عنه الحراك بوثيقة وقرار رسمي، والحال أن الحراك الشعبي، خرج بوثيقة مطالب تتضمن ما هو اقتصادي واجتماعي، ويثبت بالملموس أن الحراك جزء من الوطن، وأن نشطاء الحراك يدفعون في هذا الاتجاه، بالنظر إلى أن المنطقة عانت من سياسة مجحفة نهجتها الدولة". ولكن هناك بعض التمظهرات في الحراك التي تسائل أحمجيق ورفاقه، وفي مقدمتها "بوادر" حنين إلى "جمهورية" محمد عبد الكريم الخطابي.. حنين تفضحه حسب بعض المتتبعين تلك الأعلام التي أخذ تؤثث المسيرات والمظاهرات بمدن وبلدات الريف بشكل لم يسبق له مثيل! ولم يجد الناشط الريفي من تعليل للظهور البارز لتلك الراية سوى القول "في المجتمع، هناك مختلف الأطياف، هناك من يتبنى الطرح الجمهوري، وهناك من له قناعات إسلامية، وقناعات سياسية يسارية، ويمينية ولبرالية إلخ"، مشيرا إلى أن هذا الحراك ليس في نهاية المطاف سوى "انعكاس لهذا المجتمع". ثم استدرك قائلا "الجميع يشارك معك للنضال على مطالب اقتصادية واجتماعية وحقوقية، وهذا هو سقف المطالب وحسم فيها الحراك منذ البداية". الحراك في الوثائق والتصاريح غير أن بعض المتتبعين يردون على أحمجيق بتساؤلات من قبيل، "ما معنى رفع شعارات باسم شعب الريف؟"، و"ما معنى أن نرفع في الساحات شعارات ذات حمولة سياسية، وتعبر على مناهضة للدولة المركزية، وربما مقدمات لإعلان القطيعة التامة؟"، وغيرها مما يطرحه حتى بعض الذين يخرجون في الحراك. هذه التساؤلات يحاول محمد المجاوي، وهو ناشط ينتمي أيضا إلى الدائرة الضيقة لقادة الحراك، التصدي لها بالتأكيد على أن "ماهية الحراك وتوجهاته، يجب أن تحدد من خلال وثائق الحراك نفسه، وأيضا من خلال تصريحات نشطائه البارزين". وبالرجوع إلى وثيقة المطالب التي سبق لنشطاء الحراك أن تقدموا بها علانية خلال مسيرة سابقة، يبدو جليا أنها لا تخرج عن نطاق ما هو حقوقي واجتماعي واقتصادي. "منذ بداية الحراك وأنا أنفي بشكل بات ومطلق، أن يكون الحراك ذا طبيعة انفصالية"، يقول المجاوي الذي أبرز في تصريح ل"أخبار اليوم" أن وثيقة المطالب، وهي الوثيقة الوحيدة التي تعبر إلى الآن عن ماهية الحراك وتصريحات نشطائه، لا علاقة لها بالانفصال، بل لا تحمل أي مطلب ذي طابع سياسي. "هناك فعلا وجهات نظر لمتتبعي الحراك عندما يرون رفع أعلام الجمهورية بالمئات، وعندما يرون أيضا تعاطف الخارج، يعتقدون أن ذلك يعد تعبيرا عن الانفصال، ولكن نحن أكدنا منذ البداية على أننا خلقنا فضاء أحس فيه الريفي بأنه مكان يمكن أن يفجر فيه ما بداخله". بيد أن هناك وقائع تلقي بظلال الريبة والشك حول بعض النوايا، ومنها مثلا أنه يوم فاز المنتخب المصري على نظيره المغربي في ربع نهاية كأس إفريقيا للأمم، خرج العشرات من السكان بالحسيمة يهللون لانتصار المصريين! وينفي المجاوي أي "تعبير انفصالي" عن هذه الخطوة، مؤكدا أن الذين خرجوا إلى الشارع فرحين بالمصريين كانوا يشجعون كلهم المنتخب المغربي، لكن و"لأن المنطقة عانت، وفي تلك الأيام ساد التوتر بين المحتجين والدولة، قاموا بهذه الخطوة"، مشيرا إلى أن العديد من الذين يحملون أعلام الجمهورية، يؤكدون بأنهم يقدمون على ذلك باعتباره "رمزا تاريخيا فقط". وإذا كانت هذه وجهة نظر المجاوي، في الشعارات القوية والرموز التي توحي أحيانا بوجود نزعة انفصالية، فإن إلياس العماري، رئيس جهة "طنجة- تطوان- الحسيمة"، الذي كان هدفا أكثر من مرة لانتقادات نشطاء الحراك، يرى بأن حراك الحسيمة ،"لا يختلف عن كل أنواع الحراك في عدد من مدن ومناطق المغرب"، ويضيف أن "معدل الاحتجاجات في مدينة مثل مدينة الرباط، يفوق بأكثر من 20 مرة معدل الاحتجاجات بالحسيمة!". في هذا السياق يتساءل العماري، في تصريح ل"اليوم 24″، "لماذا لا ينظر من طرف بعض المهتمين والمتتبعين للحراك الموجود في المناطق الأخرى بنفس النظرة التي ينظر بها إلى حراك الحسيمة. وأضاف أن الشعارات المرفوعة تبقى ذات "نفحة اجتماعية". وقال "شخصيا في زمن ما كنت جزءا من هذا الحراك، وما يجري اليوم استمرار للحراك الذي كان ما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال"، ليختم بالتأكيد على أن المطالب كلها ذات مضمون اجتماعي".