يعيشون غربتين.. غربة الهجرة وغربة السجن. إنهم السجناء المغاربة في السجون الإيطالية الذين يفوق عددهم 4 آلاف سجين. «اليوم24» زارت بعضهم لتبدد من حولهم تلك الغربة المزدوجة ولو لحين. كان الوقت وسط النهار. بناية تعود إلى أكثر من نصف قرن تنبعث منها رائحة الرطوبة الممزوجة بانعدام الحرية، أسوار عالية وسميكة من الإسمنت المسلح تنتهي ببيتين زجاجيين معلّقين في أقصى اليمين وأقصى اليسار يطل من كل منهما رجل أمن يتأبط بندقية وفي حالة تأهب. أبواب حديدية أوتوماتيكية ثقيلة تدعن أزرار التحكم فيها الأصابع رجل في عقده الخامس، يُدخل من يشاء. نظرته تخترق عيون الزوار لقراءة ما يبطنون. بعد تقديم بطاقة الهوية وتذكير الموظف البدين ،الذي بالكاد تحتويه بدلة الخدمة، بحجز الزيارة عبر الهاتف، لرأية أحد المعارف يقضي عقوبة بسبب السرقة، وبعد ملء مطبوع التصريح المراد تسليمه للسجين، تخلصت من كل ما بحوزتي وأفرغته في صناديق معلقة وشبيهة بالصناديق البريدية، ثم خضعت لتفتيش دقيق جداً. بعد ذلك، تمت مرافقتي إلى الداخل لنتخطّى بابين حديدين كبيرين تم إغلاق كل منهما بإحكام لنصل إلى «صالة « كبيرة بها أربع موائد مرقّمة، سأفهم في ما بعد أن كل منها مخصصة لسجين وزائريه، خرج الموظف موصداً وراءه الباب الحديدي الأملس، وتركني وحيدا.
معاناة متعددة الوجوه نحن الآن في قلب سجن «أليسّاندريا» بشمال إيطاليا الذي يوجد فيه 335 سجينا، 246 منهم أجانب (73% ) بينهم 56 مغربيا. مساحة الزنازن من 16 إلى 24 متر مربع يتقاسمها 4 إلى 6 أشخاص حسب المساحة. عرف السجن واقعة تاريخية سنة 1974 حيث تمرد السجناء واحتجزوا رهائن، ولم ينهوا احتجاجهم إلا بعد تدخل عنيف للأمن خلف حصيلة مؤلمة، تمثلت في سبعة قتلى و15 جريحا. «سنة 2013 لم تسجل أحداث كبيرة هنا، باستثناء بعض الاحتجاجات على الأكل، ثم بعض الاعتداءات لكنها ليست بالخطيرة، بل كان أصحابها قد عمدوا إلى إثارة الانتباه لا أكثر، أو من أجل تنقيلهم إلى مناطق أخرى»، يقول أحد الحراس ل «اليوم24». إلى نفس «صالة الزوار» جيء بمغاربة آخرين فكانت فرصة لتبادل أطراف الحديث، وقد حكوا ل « اليوم24» عن المشاكل التي يواجهونها لزيارة أهلهم أمام الصعوبات اللغوية والإجراءات الصارمة للسجن، «اختلافنا الديني معهم لا يتفهمه بعض الحراس»، يقول أحد الحاضرين الذين توبع أخوه بالسرقة المقرونة بالعنف، مستدلا على كلامه برفض الحرّاس ذات مرة أن يُدخل أقراصا مدمجة للقرآن الكريم إلى أخيه المسجون. بعد تبادل الحديث بين القادمين للزيارة، يفتح الباب فيلتحق كل سجين بالطاولة التي يجلس فيها أهله. أول ما أثاره السجناء هو مشكل التغذية، حيث أن اللحوم التي تُقدّم في الطعام ليست مذبوحة على الطريقة الإسلامية، وفقط من تعوزه الإمكانيات المادية هو من يسدّ به الرمق. أما من يملك الإمكانات الكافية بإمكانه شراء الطعام وتهييئه بنفسه داخل الزنزانة. وتخصص وزارة العدل الإيطالية مبلغ ثلاثة أورو(حوالي 40 درهما) لوجبة كل سجين، وهو مبلغ جد ضئيل بالمقارنة مع مستوى المعيشة المرتفع في إيطاليا وفي كل الدول الأوروبية. ويحكي السجناء المغاربة الذين التقتهم «أخبار اليوم» لفترة قصيرة عن معاناة آباء رماهم القدر وراء القضبان لتبقى أسرهم دون معيل مما تسبب في تشتتها. وأجمعت كل التدخلات أن المغاربة هناك يعانون في صمت، وأنهم منسيون وراء القضبان يواجهون مصيرهم لوحدهم، وهذا ما يفسر الحالات الكثيرة للإنتحار والإعتداء على الذات التي تعرفها سجون إيطاليا. أما إذا كانت المدة المحكوم بها تتجاوز مدة صلاحية بطاقة الإقامة فتلك حكاية مأساوية أخرى. فما أن ينهي السجين عقوبته حتى يجد نفسه مهاجرا سريا، تأخذه الشرطة من السجن لترحله تاركا عائلته في المهجر.
انتحارات حسب إحصائيات نقابة شرطة السجون، شهدت المعتقلات الإيطالية سنة 2012 ستون حالة وفاة بسبب الإنتحار، 130 محاولة إنتحار و7317 حالة إيذاء الذات . واستنادا إلى تقرير «الموت بسبب السجن» الذي تصدره هيئة مستقلة، ففي سنة 2013 بلغ عدد من أنهوا حياتهم بأنفسهم وراء القضبان 49، وللأسف كان حضورالمغاربة لافتا في هذه اللائحة المأساوية بسبع حالات سنتناولها بالتفصيل: حالة الإنتحار الأولى، كان سجن «تيرني» مسرحا لها شهر يناير 2013، حيث وُجِد مهاجر مغربي (56 سنة) معلقاً في زنزانته بواسطة خيوط استخرجها من الغطاء الذي يستعمله في النّوم، وكان متهما في قضية اعتداء جنسي. شهر ماي من نفس السنة تنضاف حالتين: الأولى في سجن «كاتانزارو» جنوبإيطاليا، هناك قام أربعيني مغربي بخنق نفسه بكيس بلاستيكي حتى الوفاة. الثانية في سجن «بيروجا» وبه عثر الحراس على جثة مواطن مغربي آخر (45 سنة) يدعى مصطفى حجاجي، وهو معلقاً على النافذة بخيوط حذائه واضعا بذلك نهاية درامية لسيناريو لا يقل تراجيدية، كان قد بدأه بذبح ابنيه أحمد (8 سنوات) وجيهان (12 سنة) قبل أن يحاول اللحاق بهما بقطع شرايين حنجرته لكن الأمن ألقى عليه القبض ليتم إنقاذه وليودع السجن. وقد أسالت جريمته، التي تقشعر لها الأبدان، الكثير من المداد نظرا لفداحتها، ولكون سبب إقدامه على فعلته هو خلافاته مع زوجته التي افترق معها. وبسجن «بادوفا» شهر غشت «انتحر» عشريني مغربي وجده أمن السجون يحتضر في زنزانته فتمّ نقله إلى المستشفى، لكن تدخل الأطباء لم يفلح في إنقاذه ليلفظ أنفاسه هناك. رفاقه في السجن رفضوا رواية الأمن بانتحاره، وأكدوا أنه لم ينتحر بل ضربه الحرّاس ضربا شديدا أدى إلى وفاته، وكان وصول نبأ وفاته إلى مسامعهم بداية في جعلهم يدخلون في شكل احتجاجي بإحداث فوضى داخل السجن، وضرب الأواني مع قضبان الزنازن، وعند خروجهم إلى الساحة في الساعة اليومية المخصصة لذلك ( تسمى ساعة الهواء)، وبعد انقضاء المدة المسموح لهم بها رفضوا الرجوع إلى زنازنهم. فكانت مناسبة للدعوة إلى فتح تحقيق في الموضوع والمطالبة بتحسين أوضاعهم، ذلك أنهم يعيشون في زنازن مكتضة، حيث يعيش تسعة نزلاء في غرفة من 24 متر مربع في حرارة صيف ودرجة رطوبة مرتفعة جدا. لم يغادر السجناء الساحة إلا بعد وصول تعزيزات أمنية وحضور قاضي محكمة «بادوفا»، الذي وعدهم بتشريح الجثة وفتح تحقيق في موضوع الوفاة، وبرفع مطالبهم إلى وزارة العدل . ووراء قضبان «ليفورنو» لم يملك فؤاد ( أ.) تاجر المخدرات الأسبق من الصبر كثيرا، فقرر أن يعجل بملاقاة ربه للحد من معاناته في السجن وإيقاف سنه عند ال 37، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة إلا ذات يوم من شتنبر 2013، حيث أخذ قارورة الغاز التي يستعملها ورفاقه في الطبخ وأدخلها معه إلى مرحاض الزنزانة فاتحا إياها ومستنشقا ما بها حتى خارت قواه. وعرف سجن «بيزارو» أيضا إنهاء مهاجر مغربي لحياته شهر أكتوبر 2013 بواسطة خيوط حذائه، حيث كان يبلغ من العمر 33 سنة، ومحكوما عليه بالسجن سبع سنوات. نفس الشهر عرف وفاة شاب آخر (27 سنة) بنفس الطريقة بسجن «لاسبيزيا». وشهدت سنة 2013 أيضا محاولة انتحار مغربيين، لكن تدخل الحراس في الوقت المناسب حال دون وفاتهم. ويمكن القول أن الإنتحار عملة رائجة في السجن الإيطالي، ينتحر السجين كما ينتحر السجّان أيضا، ففي سنة 2013 سُجّلت 8 حالات وفاة بسبب الإنتحار في صفوف شرطة السجون.
سجن إيطاليا أرحم تعالت الكثير من الأصوات في السنين الأخيرة داعية المشرع الإيطالي إلى ضرورة التحرك لوقف انتقادات الإتحاد الأوروبي بإيجاد حل للاكتظاظ الذي تعرفه السجون، وإلى ضرورة تكثيف الديبلوماسية جهودها لإبرام اتفاقيات مع الدول التي ينحدر منها السجناء الأجانب المتواجدين بكثرة وراء القضبان الإيطالية، كالمغرب ورومانيا وألبانيا، لإفراغ السجون وتمكين هؤلاء من قضاء ما تبقى من عقوباتهم في سجون بلدهم الأصلي، ما يدعو إلى ذلك أيضا ارتفاع تكلفة السجناء، إذ أن كل سجين يكلف يوميا الدولة الإيطالية 150 أورو، حسب وزارة العدل (أي حوالي 1650 درهما). المشرع الإيطالي بصدد إصدار قانون يسمى «إخلاء السجون»، والذي صادق عليه مجلس النواب الإيطالي في انتظار التأشير عليه في مجلس الشيوخ. ويقضي القانون بإخلاء السجون من مرتكبي الجنح الذين لا يدخلون في خانة «خطر»، كما ينص على إخراج كل من تبقت لهم 18 شهرا من المدة المحكوم بها ليقضوها في منازلهم مع تزويدهم ب»دملج إلكتروني» ينبه الشرطة حال خروج المحكوم من منزله، لكن بشرط توفر ضمانات عدم هروب السجين، ومع استثناء مقترفي الجرائم الخطيرة، كالقتل والإعتداءات الجنسية والإرهاب وزعماء المافيا. وفيما يخص المهاجرين فالقانون يضع أمام القاضي اختيار الترحيل إلى البلد الأصلي كبديل عن السجن إذا لم تتعدّ المدة المحكوم بها عامين، أو إذا كان مدانا بسبب مخالفته لقوانين الهجرة. ولا ينطبق هذا القانون على من كان مدانا بسبب جريمة خطيرة مما سبق، مع التوصية بتشكيل هيئة مستقلة تسهر على احترام حقوق الإنسان في هذا الباب. كما سيسهّل القانون مساطر ترحيل المهاجرين السريين من مراكز «تحديد الهوية والطرد» المثيرة للجدل، والتي سببت كثيرا من الحرج و «وجع الرأس» للمسؤولين الإيطاليين في الآونة الأخيرة. ورغم المشاكل التي يتخبّط فيها السجناء المغاربة في السجون الإيطالية فأغلب من استطلعت « اليوم24» آراءهم يفضّلون قضاء المدة المحكوم بها في إيطاليا على الترحيل إلى المغرب، بسبب الحكايات الكثيرة التي يسمعونها عن الأوضاع الكارثية في السجون المغربية. لكنهم بالمقابل يريدون تدخلا وحضورا وحماية من بلدهم الأصلي. ولكن هذا لا يتم إلا في مناسبات ناذرة جدا موجهة للإستهلاك الإعلامي أكثر منها لملامسة المشكل والبحث له عن حلول. أحد السجناء يدعى سعيد، لخص الإهمال الذي يحس به السجين المغربي قائلا: «هؤلاء كل ما يهمهم في مغاربة العالم هو مقدار ما يحوّلونه من الحْصيصة لا أقل ولا أكثر «، قبل أن يضيف أن السلطات المغربية لا تهتم بالمهاجرين خارج السجون، فما بالك أن تلتفت إلى «مأساتنا نحن المنسيون وراء هذه الحيطان».
أكثر من 5 آلاف سجين مغربي يبلغ عدد المؤسسات السجنية بإيطاليا 206 مؤسسة، وتشير إحصائيات وزارة العدل بهذا البلد إلى أن عدد السجناء بلغ عند نهاية سنة 2013 ما قدره 62.536 بزيادة 35%، بالمقارنة مع سنة 2008، وهي سنة بداية الأزمة التي ضربت الاقتصاد الإيطالي، ويشكل الأجانب منهم 21.854 أي %34.95 بزيادة نسبة 20% في الست سنوات الأخيرة، حيث يتركزون في جهات الشمال، وتحتضن جهة «لومبارديا» العدد الأكبر منهم (4000 سجين). الأجانب يتوّزعون على 140 جنسية 46 في المائة منهم أفارقة، يأتي المغاربة في الرتبة الأولى بأكثر من 5000 سجين في 2013؛ أي بنسبة %18.7 تليهم نسبة الرومانيين ب16.1 % ثم الألبان بنسبة 13%، فالتونسيين ب12.1 %، يليهم النيجيريين ب4%، أما النسبة الباقية فتشكلها جنسيات مختلفة. غالبية السجناء المغاربة يقضون عقوبات بسبب جرائم متعلقة بخرق قوانين الهجرة، وبالسرقة والضرب والجرح وإحداث أضرار في ممتلكات الغير، إضافة إلى المتاجرة والمخدرات والإعتداءات الجنسية، ثم حالات قليلة من القتل العمد.