أثبتت استقالة الدكتورة "ريما خلف" من منصبها كأمينة تنفيذية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، المسماة اختصارا "الإسكوا"، استقامةَ هذه الخبيرة، التي شرّفت البلاد العربية، وقدمت نموذج المرأة النزيهة، التي تصدح بالحق، ولا تنحني أمام الضغوطات والإغراءات، ولا تهاب الدسائس، أو تخاف فقدانَ المنصب وامتيازاته. لقد امتلكت "ريما خلف" جرأة الإصرار على الإبقاء على التقرير المُدين ل"إسرائيل"، والذي وصف هذا الكيان ب"دولة الفصل العُنصري"، و"الأبرتايد"، وحتى حين اشتدت الضغوطات على الأمين العام للأمم المتحدة، السيد "أنطونيو غوتيريس"، وطلب منها سحب التقرير، خاطبته "ريما خلف" بالقول: "خلال شهرين طلبت مني سحب أكثر من تقرير"، لتقدم مباشرة على الإعلان عن استقالتها من منصبها كأمينة تنفيذية لمنظمة "الإسكوا"، كاشفة بذلك حدود قدرة الأممالمتحدة وأمينها العام على إدارة الشأن الدولي بتجرد ونزاهة، ووفق ما تنص عليه المواثيق والاتفاقيات ذات العلاقة. نُذكر القارئ الكريم أن التقرير المعني هنا، والذي كان مصدر الاستقالة الشجاعة "لريما خلف"، حمل عنوان: "الممارسات الإسرائيلية نحو الشعب الفلسطيني ونظام الفصل العنصري"، وهو مكون من أربعة وسبعين (74) صفحة، إضافة إلى ملحقين، وقد أبرز منسقه العام "ربيع بشور"، جوهر ما ورد فيه في نقطتين أساسيتين، هما: أثبتت النقطة بما يكفي من الأدلة بأن "سياسات إسرائيل وممارساتها شملت كل الشعب الفلسطيني ولم تقتصر على جزء منه، حيث طالت كل الفلسطينيين سواء داخل الأراضي المحتلة منذ 1948، أو خارجها في الشتات (لبنان، سوريا والعراق). أما وسيلة ذلك، فتتجلى في لجوء "إسرائيل" إلى "ممارسات غير إنسانية بغية تكريس سيطرة فئة عرقية على فئة أخرى، واعتماد تفتيت الشعب الفلسطيني أداة استراتيجية لسيطرة الفئة العرقية اليهودية على الشعب الفلسطيني ككل". أما النقطة المحورية الثانية في التقرير، فتخص وسمَ النظام القائم في "إسرائيل" ب "الأبرتايد"، وقد توفق معدوه في إثبات توفر "إسرائيل" على كل عناصر هذا النظام المقيت والمحرم دوليا، حيث أنشأت "إسرائيل" فعلا، نظاما عنصريا شبيها بما كان موجودا في جنوب إفريقيا قبل انعتاقها واسترجاع حريتها، وهذا ما أكدته خلاصات التقرير وشددت عليه. نُذكر، أيضا، أن الدول الأعضاء في "الإسكوا"، وعددها 184 بلدا، طلبت في شهر يونيو من عام 2015، إعداد هذا التقرير، وقد تم الاتصال بالخبيرين الدوليين: "ريتشارد فولك"، أستاذ القانون الدولي في جامعة "برينستون" في "نيوجرزي"، و"فرجينيا تيلي"، أستاذة العلوم السياسية في جامعة جنوب "إلينوي"، بإنجاز هذا التقرير، الذي تم إطلاقه يوم الأربعاء 15 مارس 2017، قبل أن تتكاثر الضغوط من أجل سحبه. أما قيمته العملية والاستراتيجية، فتكمن في كونه "يشكل قاعدة تسمح للدول الأعضاء في ما لو أرادت إحالة التحقيق على محكمة الجنايات الدولية اللجوء إليه، لإثبات جريمة الفصل العنصر والأبرتايد في حق "إسرائيل". ما العمل الآن؟ وقد استقالت الخبيرة المُقتدرة "ريما خلف" على خلفية الضغط الممارس لسحب تقرير علمي، مبني على معطيات موثوقة فيها، ومُصاغ من قبل خبراء لهم باع طويل في هذا الميدان. لاشك أن التقرير لن يُدفن ويُقبر أثره بسحبه، فحضوره سيبقى مستمراً، وتداوله سيتكاثر، والإحالة عليه لكشف الطابع العنصري لدولة "إسرائيل" لن تزول. أما اسم "ريما خلف"، فيُحفر في سجل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن موقفها الشجاع سيبقى مثالاً عن أعضاء الذين اشتغلوا في مؤسسات الأممالمتحدة ولم يترددوا في نقد نظامها الموسوم بالتحيز غير العادل، والمطبوع بالفساد السياسي والإداري والمالي. والواقع أنني شخصيا لم تفاجئني جرأة واستقامة السيدة "ريما خلف"، فقد كان لي شرف التعرف عليها منذ سنوات، كمسؤولة عن "تقارير الأممالمتحدة للتنمية الإنسانية العربية"، التي تشرفت أن كنت أحد كتاب أوراقها، لا سيما تقريري "الحرية والمرأة"، كما كنت أحد الكتاب الرئيسيين في التقرير السادس لعامي 2010 و2011، الذي بدوره امتنع "برنامج الأممالمتحدة الإنمائي" عن نشره، فاضطر فريق العمل على نشره مشتركا بين مركز دراسات الوحدة العربية والجامعة الأمريكية في القاهرة. لقد ظلت "ريما خلف" أيقونة في بلدها الأردن، وفي كل البرامج الهادفة إلى تحقيق الدمقرطة والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية.. فتحية تقدير وإكبار لهذه السيدة العظيمة.