بين الحين والآخر يستحسن أن ترى الدول وجهها في مرآة الآخرين، وأن تدقق في الصورة التي يرسمها عنها خبراء السياسة والتحولات الديمقراطية… لن تخسر شيئا سوى بعض من نرجسيتها، وهذا لا يضر في كل الأحوال. مجلة « «The Economistالبريطانية، وهي من أشهر وأعرق المجلات حول العالم، ينجز مختبر التحليلات لديها تقريرا سنويا عن أحوال الديمقراطية حول العالم، وتعرض أنظمة 167 دولة على بارومتر دقيق لقياس مؤشرات السلامة الديمقراطية في كل نظام سياسي، وهذه المجلة الرصينة تصنف الأنظمة السياسية حول العالم إلى أربعة أنواع: أولها الديمقراطية الكاملة، وثانيها الديمقراطية المعيبة، وثالثها الأنظمة الهجينة، ورابعها الأنظمة الاستبدادية. على أي أساس تضع المجلة كل بلد من البلدان موضوع الدراسة في خانة من هذه الخانات؟ تضع خمسة مؤشرات للحياة الديمقراطية بمفهومها الليبرالي العام، وتعطي كل مؤشر نقطة محددة، ثم تجمع مجموع النقاط، وتعطي معدلا عاما هو الذي يرسم لكل نظام موقعه في الخانات الأربع أعلاه، وهذه المؤشرات خمسة هي: نزاهة وشفافية العملية الانتخابية واحترام التعددية. ثانيا، فعالية وكفاءة الحكومة المنتخبة. ثالثا، نسبة المشاركة السياسية للمواطنين. رابعا، الثقافة السياسية في دولة من الدول، وخامسا احترام الحريات العامة (حرية التعبير والتنظيم والاحتجاج واحترام حقوق الإنسان…). ثم يبدأ خبراء المجلة في كل دول العالم بجمع المعطيات حول كل مؤشر في سنة كاملة، يفحصون النصوص القانونية والممارسات السياسية، والقرارات الحكومية والسياسات العمومية، والأزمات المتفجرة، والأحكام القضائية ذات الصِّلة، وتصريحات المسؤولين، وسلوك الدولة إزاء كل مؤشر من المؤشرات الخمسة المذكورة، ثم يعطون نقطة عن كل مؤشر بناء على شبكة تنقيط دقيقة إلى حد كبير. هذه السنة حمل تقرير «ذي إكونوميست» تصنيفا للمغرب يجعله في مرتبة «هجينة»، فلا هو نظام ديمقراطي كامل، ولا هو نظام استبدادي صريح، هو في منزلة بين المنزلتين. لماذا هذا التصنيف للمغرب الذي يقول عن نفسه إنه في طور الانتقال الديمقراطي، وإنه بلد صاعد، ويمثل استثناء في العالم العربي؟ السبب يكمن في هذه النقاط التي أخرجت المملكة الشريفة من خانة الدول الديمقراطية إلى خانة الدول الهجينة: في مؤشر نزاهة العملية الانتخابية، وقد فحص الخبراء الانتخابات الجماعية والتشريعية الأخيرة، فحصل المغرب على 4,7/10، أي أنه لم يحصل حتى على المعدل، وفي مؤشر فعالية الأداء الحكومي حصل على 4,6/10، أي أنه لم يحصل حتى على المعدل مرة أخرى. في موضوع المشاركة السياسية، وبسبب العراقيل التي تضعها وزارة الداخلية أمام مشاركة أكبر عدد من المواطنين في الانتخابات، و«قوالب» النظام الانتخابي، حصل المغرب على 4,4/10 دون المعدل مرة أخرى. النقطة نفسها حصلت عليها المملكة في موضوع الحريات العامة، وحرية التعبير والتنظيم والتظاهر. النقطة الإيجابية الوحيدة التي حصلنا عليها كانت حول الثقافة السياسية لدى المجتمع، 5,6/10. عندما نجمع النقاط كلها ونقسمها على خمسة، نحصل على معدل عام هو 4.7/ 10، وهذا المعدل لا يخول المغرب الصعود إلى قسم الدول ذات الأنظمة الديمقراطية المعيبة، والذي يتطلب، على الأقل، حصول النظام على معدل ما بين 6 و7 على 10، فيما يتطلب الصعود إلى قسم الديمقراطيات الكاملة الحصول على معدل يتراوح بين 8 و10 على عشرة. هذا من حيث المعدل العام، أما من حيث الترتيب، فالمجلة وضعت المغرب في الرتبة 105، بعدما كان في الرتبة 107 السنة الماضية. على المستوى العربي، لم يسبقنا في بارومتر المجلة البريطانية سوى تونس، التي صنفت ضمن الديمقراطيات المعيبة، في الرتبة 69، ولبنان الذي صنف في الأنظمة الهجينة ووضع في المرتبة 102، أما مراتب باقي الأنظمة العربية الأخرى فهي لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا، فجلها مصنف ضمن الدول الاستبدادية (الجزائر 126، قطر 135، مصر 133، الكويت 121، سوريا 166، أي قبل كوريا الشمالية فقط). ماذا تعني كل هذه الأرقام والنسب والمؤشرات؟ أولا: تعني أن بلادنا، من وجهة نظر المجلة البريطانية ومراكز علمية كثيرة في الغرب، لم تدخل بعد إلى نادي الديمقراطيات الحديثة، وأن الرباط، رغم خمسين سنة من النضال والتضحيات والحراك والشلل والسقوط والنهوض، مازالت في طور انتقالي اسمه «الأنظمة الهجينة»، التي تخلط في إدارة حكمها بين الأدوات الديمقراطية وغير الديمقراطية، وهذا ما يعطيها الطابع الهجين في التصنيف العام لمؤشرات الحكم الرشيد، والهجونة هنا ليست حكما سياسيا ولا إيديولوجيا. إنه «حكم علمي»، إلى حد ما، بمعايير العلوم الإنسانية وليس دقة العلوم البحتة… ولهذا، يجب على النخب الحاكمة والمحكومة أن تعيد حساباتها إذا أرادت أن تشتغل بالورقة الديمقراطية كرأسمال سياسي ودبلوماسي في الداخل والخارج. ثانيا: تصنيف المجلة البريطانية، وغيرها من المراكز العلمية المحترمة، يجب أن يفيد الحكومات المقبلة في وضع أهداف محددة ودقيقة لتحسين ترتيب المغرب الديمقراطي، كأن تلتزم الحكومة الموعودة، في الخمس سنوات المقبلة، بنقل المغرب من خانة البلدان الهجينة إلى خانة البلدان ذات الديمقراطية المعيبة على الأقل، مع وضع برنامج للنهوض بمختلف المؤشرات السلبية حتى نلحق بتونس مثلا، فيكفي أن نلغي لوائح الاقتراع، ونسمح بالتصويت بالبطاقة الوطنية، ونوسع من رقعة المشاركة، ونحسن نزاهة الاقتراع، ونحترم نسبيا حرية التعبير والتنظيم، وننصح الدولة بالابتعاد عن هندسة الأحزاب، ونزيد فعالية الأداء الحكومي، لنربح نقاطا مهمة تؤهلنا للانتقال من قسم إلى قسم.. أما حكاية الانتقال الذي لا يريد أن ينتهي، فهذا مجرد «علكة نمضغها دون فائدة». ثالثا: القاعدة تقول إن الذي لا يتقدم يتراجع، وإن التحول الديمقراطي، مثل ركوب دراجة هوائية، إذا توقفت عن الحركة وعن التقدم إلى الأمام، تسقط على الأرض. هذا ما ينطبق على المغرب الذي خرج من خانة الدول الاستبدادية منذ سنوات، لكنه بقي حبيس إطار الدول الهجينة، ولم يتقدم نحو دخول نادي الديمقراطيات الحديثة بدرجاتها. هذا معناه أننا لم نقطع وادي الاستبداد، ولم تجف أرجلنا من سلبياته وتبعاته، مادمنا عالقين في منزلة بين المنزلتين، لهذا، يجب تفعيل الثابت الرابع من ثوابت الدستور، وهو الخيار الديمقراطي، وإخراجه من النص الدستوري، وإعطاؤه معنى على أرض الواقع، وهذا في صالح الجميع، حاكما ومحكوما، في ظرفية صعبة، وأمام مجتمعات متحركة، وفي مناخ مضطرب، في بلاد لا توزع الوفرة، لكنها تدبر الندرة في كل شيء.