استدعى القاضي محمد دينيا، الكولونيل القطري، الذي كان بقفص الاتهام رفقة قرابة 20 متهما ينتظرون أحكامهم، وقلوبهم تكاد تتوقف من الانتظار الثقيل جدا. تقدم جابر محمد جابر بلحيته البيضاء المصففة بعناية، وشعره الأسود، وهو يرتدي معطفا أسود طويلا. أوقفه الشرطي، لكن القاضي أمر بتركه يتقدم نحوه. تأمل فيه قليلا، وقال له برفق بأن المحكمة قررت تبرئته من تهمة تكوين عصابة إجرامية، ومن هتك عرض شخص ذكر، فيما قررت متابعته بتهمتي الاحتجاز وصنع أشرطة مخلة بالآداب. تسمرت عينا الكولونيل القطري على شفتي القاضي، وكأنهما تتوسلانه ليقول كلمة تريح قلبه. ثم: "باسم جلالة الملك قررت المحكمة معاقبة المتهم بسنة واحدة حبسا نافذا مع تحميله الصائر". كان الحكم مراعاة للتنازل الذي قدمه دفاع الكولونيل القطري، والذي أفاد من خلاله المحامي التونسي الفرنسي، أن موكله حصل عليه مقابل 200 ألف أورو، سلمه لوالدة الضحية غيث عز الدين بتونس عن طريق السفارة القطرية بالمغرب.
مساء الانتظار الثقيل
بعد أن قرر القاضي في الفترة الصباحية تأخير الملف إلى الفترة المسائية لإعطاء المتهم الكلمة الأخيرة، قبل المداولة للنطق بالحكم، ظهرت علامات التيه على الشاب الأنيق الذي يأخذ كل ملامح والده، إلا أن قوامه أطول، جلس قليلا بردهة المحكمة، لا يتحدث كثيرا إلا مع المحامي التونسي، والنقيب المغربي محمد حيسي الذين طمأناه بخصوص سير المحاكمة. لم يتعد الشاب الذي يبدو أنه يحس بحمل ثقيل جدا، مسارا بسيطا، يتراوح بين المحكمة والمقهى الكبيرة على ناصية الشارع. ولم يتحدث قط إلى زوجة والده التونسية التي حضرت بدورها أطوار المحاكمة، وكأنه يحملها مسؤولية ما صار لوالده وهو في الستينيات من عمره.
تجاوز الوقت السابعة مساء. كان نجل الكولونيل القطري السابق يجلس بمقهى قريب، ينتظر قرار المحكمة، قبل أن يتلقى اتصالا هاتفيا بالخبر الذي لم يظهر هل أفرحه أم أغضبه، لكن المؤكد أن والده سيبقى داخل أسوار المركب السجني عكاشة لأزيد من 10 أشهر إضافية، وهو الذي قدم للمغرب سائحا لينتهي به الأمر معتقلا، حسب توضيح المحامي التونسي.
صباح التفاصيل المثيرة
كشفت محاكمة كولونيل قطري سابق بمحكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، أطوارا مثيرة، وسيناريوهات مختلفة، بسطتها النيابة العامة، وأوضحت من خلالها أن المتهم ضالع بما لا مجال فيه للشك في الجريمة، وروتها هيئة الدفاع بطريقة مختلفة تبين أن الكولونيل القطري جابر محمد جابر هو ضحية نصب واحتيال، مفردة مجموعة من النقاط لكشف خيوط المؤامرة. وواجه القاضي محمد دينيا، أثناء انعقاد الجلسة أول أمس الثلاثاء، المتهم القطري الذي يوجد رهن الاعتقال الاحتياطي بسجن عكاشة، بوقائع الملف، حسب ما ورد في قرار الإحالة، وكذلك بمحاضر الشرطة القضائية التي حققت في الملف، حيث أوضح أنه رسم خطة لاختطاف المواطن التونسي، بعد استدراجه للمغرب، مستعينا بأربعة تونسيين بينهم فتاة كانت هي الطعم لجلبه إلى المغرب، حيث تم نقله من الفندق خمسة نجوم إلى شقة بمنطقة بوركون، ووضع اللصاق في فمه وخلع ملابسه، وهتك عرضه بواسطة عصا مع تصوير العملية.
وأضاف رئيس هيئة الحكم لدى القاعة 7 بمحكمة الاستئناف الابتدائية، مسترسلا في سرد السيناريو المضمن بالتحقيقات في القضية، أن المتهم منح المواطنين التونسيين 20 ألف دولار، لمساعدته في الانتقام من عشيق زوجته، حيث متعهم بإقامة فاخرة بأحد أفخم الفنادق بالدارالبيضاء، ووضع سيارة فارهة في خدمتهم، وذلك مقابل تسهيل انتقامه من المواطن التونسي الذي أرّقه طويلا. انفرد "اليوم 24" بنقيب المحامين بهيئة الدارالبيضاء محمد حيسي، ليصرح لها أن المتهم جابر يعاني من أمراض مزمنة، وأجرى عملية جراحية على القلب، وبالتالي فقد أعياه التنقل إلى الشقة، مسرح الجريمة، ليخلد إلى النوم، حين اطلع على الضحية وهو مكبل وعار ويتعرض للتعذيب، وفي تلك الأثناء، باقي المتهمين قاموا بإزالة القيود من يد الضحية المزعوم، وخرجوا جميعا ودبروا كيفية مغادرة التراب الوطني، بحيث إن العملية تمت يوم 23 أكتوبر بين الساعة الواحدة والثالثة صباحا، وعملية مغادرة التراب الوطني تمت في الزوال، وأضاف أن العملية من أولها إلى آخرها كانت مدبرة، وأن المتهم لم يستفق من هاته الأحداث إلا بعد أن تم إلقاء القبض عليه وإحالته على سجن عكاشة. مرافعات مثيرة ومحاكمة كولونيل
تحدث جابر محمد جابر بصوت منخفض، والعياء باد على محياه، أن التونسي كانت له علاقة مع زوجته التونسية، وأنه نشر صور لها بموقع التواصل الاجتماعي، مؤكدا أنه كان يبتزه بتلك الصور، مضيفا أنه تلقى اتصالا هاتفيا يفيد أن التونسي غيث عز الدين، يوجد بالشقة المفروشة، لينتقل إليها ويجد الضحية مكبل اليدين، مقفل الفم بواسطة لصاق، ومجردا من الملابس، مشيرا إلى أنه عبر عن استيائه عما يقع، قبل أن يحس بالإعياء ويخلد للنوم تاركا الضحية في يد أفراد العصابة. وتحدث ممثل النيابة العامة بأن التهم الموجهة للكولونيل القطري والمتضمنة لتكوين عصابة إجرامية والتعذيب والاحتجاز وهتك عرض ذكر، هي ثابتة في حق المتهم، حيث خطط لاستدراج الضحية إلى شقة والاعتداء عليه، وهو ما اعترف به المتهم أمام قاضي التحقيق والشرطة القضائية. وختم مرافعته بأن المتهم ارتكب جميع ما نسب إليه من أفعال، ملتمسا إدانة المتهم الضابط القطري السامي السابق بما نسب إليه. ارتفع صوت محمد حيسي نقيب المحامين بالدارالبيضاء، من خلال ميكروفون القاعة الإلكتروني المثبت أمامه، بنبرة ثابتة، موضحا أن الملف أحيل في 25 أكتوبر على قاضي التحقيق، الذي قرر إنهاء البحث في 2 نونبر، معبرا عن اندهاشه للسرعة التي تم تناول الملف بها، خاصة وأن المواطن القطري المعتقل يواجه تهما خطيرة قد تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد. وأوضح النقيب أن المتهم لم يعترف بما نسب إليه، وإنما يتعلق الأمر بمشكل في التواصل خلال التحقيقات، مشيرا إلى أنه ضحية سيناريو مدبر من طرف باقي المتهمين الموجودين في حالة فرار، مؤكدا أن الأشرطة التي تم تسجيلها لم يتم تداولها، معتبرا أن الكولونيل القطري هو الضحية الأول والأخير في النازلة. مضيفا أنه تم استدراجه وتوريطه في القضية، متسائلا حول عدم إجراء العملية في تونس، خاصة وأن جل أطرافها بتونس الشقيقة. استجمع النقيب محمد حسي أنفاسه، وكأنه ينصت لوقع كلماته على الحضور، قبل أن يواصل أن النصب على الأثرياء بمثل هاته الطريقة، هو أمر شائع في تونس، وأن القضاء هناك متنبه لهاته الطريقة، وهو ما جعل أفراد العصابة يقررون تنفيذ عملية النصب بالمغرب، حيث تمت الاستعانة بابن خالة زوجته التونسية لتدبير المكيدة، مشيرا إلى أن عمليتهم كللت بالنجاح ليلتقي الجميع بتونس. مؤكدا أن السفارة القطرية تدخلت لحصول المتهم على التنازل، وأنها من أرسل مبالغ مالية طائلة إلى والدة الضحية بتونس. ومن جهته، استغرب محامي تونسي من هيئة المحامين بمارسيليا الفرنسية، والمنضم لدفاع المتهم القطري، طريقة التعامل مع ملف موكله، حيث وضع خطوطا عريضة تحت مدة التحقيق التي لم تتجاوز أسبوعا واحدا، مع الإشارة إلى أن القضية تتعلق بأربع تهم جنائية، مشيرا إلى نقطة في تصريح الضحية التونسي تتعلق بتناقض دقيق حول نفيه وجود علاقة بالمتهمين الفارين، وفي نفس الوقت أجرى اتصالا هاتفيا، مضيفا أنه فصل مجموعة من النقاط بمذكرة دفاعية سلمها لهيئة الحكم، موجها اتهامه للمخابرات المغربية، التي تحدث عن سمعتها الكبيرة وصيتها الذي بلغ جميع أركان العالم، بالتقاعس في الكشف عن مخطط هاته العصابة التي قدمت من تونس لتنفذ عمليتها وتعود سالمة إلى قواعدها بعد أن حققت كامل أهدافها.