للوهلة الأولى، تبدو العبارة الصحفية المسكوكة "بين الأصالة والمعاصرة" صالحة للتعبير عما يرد بذهن الزائر وهو يحط الرحال بالمملكة. هذه العبارة قد تصلح في الحقيقة شعارا لمطويات تسويقية لمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي دشنه الملك في مارس 2015 بالرباط. يضم المعهد الذي أسس في تسعة أشهر فقط، كافة العلامات الخارجية التي تحيل على جامعة إسلامية تقليدية، أقواس مدببة، نافورة مزخرفة بالفسيفساء وسط باحة المعهد، شجيرات نخيل… حتى مظهر التلاميذ أنفسهم يبدو متحررا من قيد الزمن. الأغلبية يرتدون "القميص" أو "الجلابة"، وأيضا اللباس المالي التقليدي المصنوع من قماش "البازين". أغطية الرأس بدورها تعبر عن التعدد الثقافي لفضاءات المعهد: عمائم، قلنسوات، وشاشيات تسجد جنبا إلى جنب خمس مرات في كل يوم. علاج للتطرف يدرس حوالي ألف طالب هنا طريقة الإمامة، وينحدرون، إضافة إلى المغرب، من بلدان مالي والسنغال والكوت دي فوار وغينيا ونيجيريا، ومنذ العام الماضي من فرنسا. وقد وقعّت هذه الدول، المعجبة بالنموذج المغربي في التأطير الديني، اتفاقيات لتكوين رعاياها هنا. وكان الرئيس المالي، إبراهيم بوباكر كيتا، أول من طلب مساعدة الملك محمد السادس، في 2013، وكان حينها قد انتخب رئيسا لبلاد تعاني من ويلات الإرهاب. في فرنسا، اختمرت الفكرة في 2015، في سياق هجمات يناير ضد مجلة شارلي إيبدو ومتجر "الكوشير". أشهرا بعد ذلك، أرسل اتحاد أئمة فرنسا فوجا أولا إلى المغرب. "من المؤسف ألا أحد انتبه إلى وجود مشكل في تكوين الأئمة بفرنسا إلا بعد أحداث العنف التي ضربت البلاد"، يقول طالب فرنسي وصل إلى الرباط قبل مدة قصيرة وهو يجلس على جنب نافورة. وتقدم السلطات المغربية المعهد على أنه علاج فعال ضد الإرهاب، جاعلة إياه في قلب دبلوماسيتها الدينية. فبعد الأحداث الإرهابية التي هزت الدارالبيضاء في 16 ماي 2003، مخلفة حالة من الصدمة داخل البلاد، أطلق الملك محمد السادس إصلاحا طموحا "لإعادة هيكلة الحقل الديني". "الفكرة الأساسية كانت هي ضمان الأمن الروحي للمواطنين، ما يعني عمليا تمكين كل مسلم مغربي من أداء الصلوات داخل بنيات ملائمة، وتكوين الأئمة بشكل جيد، وأن يكون الإطار الديني باعثا على الاطمئنان. في عشر سنوات غيرنا كل شيء لتحقيق هذا الهدف"، يقول حكيم الغيساسي، مستشار وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، المهندس الرئيس للإصلاح. هكذا استثمرت الدولة المغربية بقوة في بناء وتجديد المساجد. فلمراقبة الخطابات التي تمرر داخلها كان عليها أولا أن تكون المتحكمة في تلك الأمكنة. ثم أحدثت تراتبا عموديا للتحكم في الأئمة، في أعلاه العاهل المغربي، أمير المؤمنين ممثلا لأعلى سلطة دينية في البلاد. ويأتي بعده المجلس العلمي الأعلى المؤلف من 100 عضو، والذي يملك اختصاصا حصريا لإصدار الفتاوى. كما أن كل علماء المجلس يتم تعيينهم مباشرة من طرف الملك، وهم بدورهم مسؤولون عن تكوين واعتماد أئمة المملكة الذين يبلغ عددهم 50 ألف إمام. خطوط حمراء خلال عشر سنوات، انتقل عدد موظفي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من 400 موظف إلى 4000 موظف. وصار الأئمة يحصلون على تعويض شهري قدره 1500 درهم ويستفيدون من الضمان الاجتماعي. وتمثل الهدف من تحسين أوضاع الأئمة في جعلهم أكثر استقلالية تجاه التبرعات وبالتالي التأثيرات الخارجية. وقد وضع الإصلاح الذي قاده القصر في الحقل الديني الإطار النظري للفصل التام بين الشأن السياسي والديني. فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تحاول أن تظل خارج أي حسابات حزبية. وبالمقابل، يمنع على الأحزاب الخوض في الشأن الديني. وحتى لو كان حزب العدالة والتنمية المحافظ يسيطر على البرلمان منذ 2011، ورئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، ينتمي له، فلا تأثير لهذا الحزب في القضايا الدينية، التي تعتبر اختصاصا محفوظا للملك. وفي إطار مشروعها لإصلاح الحقل الديني، حرصت الدولة على إغلاق الباب أمام الإيديولوجيات الدينية، وذلك أساسا عبر تكوين المكلفين بالتدبير اليومي للشأن الديني. "كافة الأئمة يخضعون لست ساعات من التكوين في الشهر"، يقول حكيم الغيساسي. تكوين تتم فيه مراجعة المبادئ الكبرى للإسلام المالكي، "لاسيما أخذ السياق المحلي في فهم الدين، إذ لا نعتقد (في المغرب) بتطبيق إسلام عابر للحدود"، يواصل المسؤول ذاته الكلام. يتعلق الأمر بمحاربة الرؤية السلفية الشمولية للدين المستوردة من الخليج. في هذا الخصوص يؤكد الغيساسي أن "قضية المصلحة، أي البحث عن الصالح العام، قضية أساسية في الفكر المالكي، ثم يأتي التصوف لمحو صرامة تلك المقاربة القانونية الصرفة للإسلام". وتستعمل الدولة هذه التكوينات للتذكير بالخطوط الحمراء التي لا يجب تخطيها، ومنها الخوض في أي حديث سياسي خلال خطب الجمعة أو المواعظ ، أو الإحالة على التيارات المتطرفة المسلحة. كما أن إلقاء خطب الجمعة يحتاج إلى ترخيص خاص ولا يمنح لكافة الأئمة. أما آخر لبنة في هذا البناء الرامي لضبط الحقل الديني، فقد تمثلت في تكوين جيل جديد من الأئمة عبر معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي تم إطلاقه سنة 2015، والتابع لجامعة القرويين العريقة بفاس. دخول المعهد ليس بالأمر السهل. توصل المعهد هذا العام ب3500 ملف للظفر بمقعد من بين 250 مقعدا دراسيا (150 للرجال و100 للنساء). ويتم قبول الأئمة المغاربة الحاصلين على مستوى الإجازة على شرط أن يكونوا يحفظون كتاب الله بالكامل من قبل. ويمتد التكوين لسنة بالنسبة للمغاربة وسنتين بالنسبة للطلبة القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، وثلاث سنوات بالنسبة للأئمة الفرنسيين. محمد ندير، الطالب الفرنسي من أصل تونسي والبالغ من العمر 21 عاما، واحد من الطلبة الخمسين الذين انتقاهم اتحاد مساجد فرنسا لتلقي تكوين في معهد محمد السادس بالرباط. يقول ندير إننا "مدلّلون هنا، يتكلف المعهد بمسكننا وأكلنا وشربنا وتذاكر الطائرة إضافة إلى منحة صغيرة". يأمل ندير في أن يقوم بدور أكبر من مجرد الإمامة أو الوعظ حين عودته إلى فرنسا. يريد أن يصير مكونا للأئمة، "هناك في فرنسا ثغرات كبيرة في التكوين الديني. جيل آبائنا دبروا أمر الدين بأنفسهم. في الغالب، كان الأئمة عمالا مهاجرين يتحدثون العربية بطلاقة وأخذوا على عاتقهم مهمة إمامة الصلاة. نكن لهم كامل الاحترام وسيتطلب الأمر الكثير من الدبلوماسية لتغيير الأمور، لكن الشباب المسلم يتطلع اليوم لأمر مختلف. يتطلع لأئمة جادين لديهم تكوين ديني صارم. فرنسا لا تريد أن ترى أن الجالية المسلمة تطورت وأنها تريد ممارسة دينية تليق بها". بفضاء المعهد، وقت الظهيرة، تسمع بعض أصوات الطلبة وهو يجوّدون القرآن من داخل أحد المدرجات. "إنه مدخل لدرس تواصلي"، يقول مدير المؤسسة، عبد السلام الأزعر. "الأئمة ليسوا فقهاء، وإنما لديهم دور اجتماعي، لذا فطريقتهم في التعبير وتمكنهم من التواصل مع الناس أمر هام جدا". ويشتمل التكوين دروسا في الشريعة الإسلامية والسيرة النبوية وعلم النفس والصحة النفسية، إلى جانب دروس أخرى في علم الاجتماع أو تاريخ فرنسا. وفي الفضاء تحت الأرضي، توجد قاعة واسعة لممارسة الرياضة مجهزة بعدة آلات للياقة البدنية. "العقل السليم في الجسم السليم"، يؤكد عبد السلام الأزعر. فراغ عقدي وهو يصعد ببطء الأدراج التي تنفتح على ضوء ساحة المعهد، يشير المدير إلى مبنى في طور البناء على الجانب الآخر من الطريق. "إنه مبنى لتوسعة الطاقة الاستيعابية للمعهد، التي ستصل إلى 400 مقعد إضافي، بالنظر إلى أننا نتلقى طلبات متزايدة من أوربا وإفريقيا وآسيا الوسطى". وحتى وإن لم يجرؤ على الدخول في منافسة مباشرة مع دول الخليج، فقد بدأ الإسلام المغربي يفرض نفسه كأحد أهم البدائل للتيار الوهابي. وبالنسبة للغرب، يمثل الإسلام المغربي إسلاما "لينا"، مرحبا به لمواجهة المد السلفي. وفي فرنسا، ينتظر أن يملأ نوعا من الفراغ العقدي الذي ظل يملأه لوقت طويل دعاة الأنترنت وإسلام المنتديات الرقمية. كما ينظر إلى المغرب، في كثير من الدول، لاسيما الإفريقية، على أنه نموذج لضبط الخطاب الديني، يمكن أن يساعد على تجنب اعتناق المسلمين للخطابات والتيارات المتطرفة. وابتداء من هذا العام، بدأ المعهد يفكك قضية التطرف ضمن مجزوءة دراسية من 22 ساعة تفكك الفكر المتطرف بالتفصيل. لكن هل بالإمكان تصدير النموذج المغربي؟ الجواب يرتبط بوصاية إمارة المؤمنين التي لا وجود لها خارج المغرب، وبالتحكم في إنتاج الخطاب الديني.. وهو ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فحوالي 1500 مغربي التحقوا بصفوف "داعش" بسوريا والعراق، حسب تقديرات "كينز كوليج" بلندن، كما أن أجهزة المخابرات المغربية تخوض حربا شرسة ضد الخلايا الإرهابية المنتشرة بالمدن الكبرى للمملكة. عن ليبراسيون