يعتقد السوسيولوجي محمد الناجي أن البيجيدي استطاع أن يحصل على ما حصل عليه من نتائج لأن مسؤوليه بقيت أيديهم نظيفة. ويرى أن ذلك يحدث في المغرب لأول مرة، ففي السابق كانت هنالك شخصيات نظيفة. أما اليوم، فهناك أسلوب حزب كامل يقوم على مبدأ "نظافة اليد". حقق حزب العدالة والتنمية تطورا في عدد مقاعده، وربما حتى في عدد الأصوات التي حصل عليها بالرغم من الحملات التي كان هدفا لها طيلة الشهور الأخيرة.. إلى ماذا يمكن أن يُعزى هذا الانتصار الثاني بعد فوز 2011؟ لهذا الفوز الثاني بلا شك أسباب عديدة، ولكن إذا أردنا أن نصل إلى جوهر القضية، فإن بمقدورنا أن نحصي سببين اثنين: الأول، هو أن حزب العدالة والتنمية حزب مهيكل بجهاز قوي وبمناضلين مقتنعين وشرسين، وبإيديولوجية تعزز مقدرته، لكن لا يمكن تلخيصها في مضامين دينية؛ سنكون ساذجين إن فعلنا ذلك. أما السبب الثانى فهو أن الأشخاص المسؤولين عن هذا الحزب بقيت أيديهم "نظيفة"، وهذا أمر يحدث لأول مرة في الحقل السياسي. بالطبع، كان هناك في السابق، وزراء ينتمون إلى أحزاب أخرى لم يحولوا مرورهم من مناصبهم في الحكومة إلى مصدر للمنافع الشخصية، لكنهم يبقون مجرد أفراد أو حالات فردية. بينما بالنسبة إلى العدالة والتنمية، فالأمر يتعلق بأسلوب حزب بأكمله. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن هذا بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي انتهى أحد وزرائه في السجن بسبب تبديد الأموال العمومية. إن الناس تفطن إلى وجود تغيير في الأسلوب، وبالرغم من كل شيء، يظهر لي أن "نظافة اليد" لوحدها مازالت قادرة على جذب الناخبين. من جانب آخر، تطور عدد مقاعد حزب الأصالة والمعاصرة بشكل مضاعف (من 47 إلى 102 مقاعد).. وبالنظر إلى ما حصل عليه هذا الحزب و"البيجيدي"، بالمقارنة مع الأحزاب الأخرى، هل يمكن القول بأننا بصدد بناء ملامح قطبية سياسية في البلاد؟ لنكن واضحين. نحن نعرف مسار حزب الأصالة والمعاصرة، كما أننا نعلم أن هذا الحزب في بدايته عندما حاول ترشيح يساريين قدامى، أدى به الأمر في نهاية المطاف إلى فشل ذريع. ومنذ تلك التجربة، فقد غير هذا الحزب دفته نحو النهج التقليدي في ترشيح الأعيان الذين كانوا يتطايرون كالقش بين الأحزاب السياسية، أو كان يستقطبهم من هيئات أخرى كالتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية وحتى من حزب الاستقلال نفسه. لقد خُصصت موارد هائلة لتنفيذ هذه الخطة، وقدمت وعود جذابة إلى الأعيان، وكان هذا سرا من بين حزمة من الأسرار الأخرى لتفسير تصاعد "البام" بهذه الكيفية. ولا ينبغي أن ننسى أيضا أن حزب الأصالة والمعاصرة قام باستهداف العالم القروي والمناطق الريفية حيث يكون الصوت الانتخابي قابلا للتفاوض، أو قابلا للتأثر بتوجيهات الجهاز الإداري بطريقة سهلة. لذلك، فإن مسألة القطبية لا يمكن أن تنطوي على معنى إلا إن كانت تعكس بالفعل توجهات موجودة في المجتمع، وهذا ما لا يحدث الآن. ومحو "الأحزاب الصغرى" كما يفعل ذلك حزب الأصالة والمعاصرة باستمرار لتحقيق ذلك ليس أمرا بسيطا كذلك؛ إن من شأن ذلك أن يخلق ردود فعل سلبية إزاء حزب الأصالة والمعاصرة، ويمكنه أن يفتح الطريق على مصراعيه لحزب العدالة والتنمية. سيبقى الهدف المفترض لهذه "القطبية" واحدا لا غير: تقييد حزب العدالة والتنمية بالأغلال. يقال إن حزب الأصالة والمعاصرة خُلق ليحكم، لكنه بعد أزيد من 9 سنوات على إنشائه مازال مستمرا في الحياة وفي المعارضة.. هل يمكن أن يتغير الحال في الخمس سنوات المقبلة، أم إن شريان الدم الذي يصل إلى جسد "البام" غير مرتبط بالضرورة بالحكومة؟ يعانى حزب الأصالة والمعاصرة من اضطرابات متعددة. لقد أُسس قبل 20 فبراير (أي قبل الحراك الديمقراطي في المغربي). وقد تغير السياق منذ ذلك الحين دون أن يغير الحزب من استراتيجيته. لقد بقي الحزب نفسه كما كان قبل 2011، وكأن لا شيء حدث في البلاد. وفي اعتقادي، فإن هذا الحزب كان يخوض الانتخابات في 7 أكتوبر، وهو على يقين من أنه سيكون الفائز بنتائجها، ولم يكن يشغل باله بشيء عدا إدارة الأعمال. إن الأعضاء الذين أسسوه أو شاركوا في تأسيسه كانت لهم الكثير من الأوهام حول أنفسهم وحول مهاراتهم السياسية، فقد كانوا يقدمون أنفسهم بأشكال من الواضح أنها ليست حقيقتهم كسياسيين أو مدبرين للسياسة وأطلقوا كما كبيرا من الأكاذيب بشأن قدرتهم على إدارة هذا الجهاز الحزبي وصدقوا في آخر الأمر أنفسهم. كان تقديرهم للأشياء أقرب إلى ما تفكر فيه الأحزاب التقليدية، وكانوا يعتقدون أن تلك الوصفة ستعمل وستحقق النتائج المطلوبة، لكن ها هم الآن، يواجهون ما لم يكونوا قد وضعوه في حسبانهم، أي حزبا منظما يحشد عددا هائلا من المناضلين المقتنعين والمصممين على تنفيذ الهدف، ويستحوذون أيضا على جزء جدير بالاعتبار من كتلة الناخبين الذين لا يمكن خداعهم. وصراحة، فإن عليّ أن أنتظر قليلا لأرى ماذا سيحدث بالضبط بعد الآن، لأني أعرف أن هناك الكثير من الأشخاص الذين انضموا إلى حزب الأصالة والمعاصرة لا يطلبون سوى تحقيق المكاسب لأنفسهم. إن المستقبل القريب سيكشف الحقيقة الفعلية لهذا الحزب. يظهر من خلال ملامح تحليل نتائج الانتخابات، أن "البيجيدي" عزز نتائجه في معاقله الانتخابية كما أظهرتها الانتخابات الجماعية، واكتسح المقاعد في تلك الدوائر بعدد مقاعد أكبر من تلك التي كان قد حصل عليها في 2011.. هل يمكن الحديث عن "معاقل مقفلة" لحزب "البيجيدي" في المغرب؟ يمكننا تسليط الضوء أكثر على سبب آخر لنجاح البيجيدي في تلك الدوائر التي تسميها أنت بأنها "مقفلة"، أي أن "البيجيدي" يملك مفاتيحها: إنه ممارسته للسلطة على مستوى الجماعات المحلية كما هو شأن ممارسته للسلطة على المستوى الوطني، فقد تعامل معها الناخبون بشكل إيجابي. لكن الأكثر أهمية هو أن حزب العدالة والتنمية بصدد توسيع مساحة تدخله، وهو أكثر اقتناعا الآن بضرورة أن تطأ قدماه العالم القروي، بالرغم من أن ذلك سيكون صعبا من دون شك، لأنه إن نجح في فعل ذلك، فإنه سيهدد الأسس الرئيسية للسلطة في البلد. لكن نتائج 2016 أظهرت أن الحزب شرع في التغلغل داخل العالم القروي.. هل هناك طرق يمكن استخدامها لمحاصرته في هذه المناطق؟ من الواضح أن اللجوء إلى تقنيات انتخابية كالعتبة والتقطيع يمكنها شيئا ما أن تقلص من تأثير حزب ما في مجموع التراب. لكن في العالم القروي هناك عامل حيوي يستعمل باستمرار، وهو العامل القبلي، وهم يلجؤون إليه حتى وإن لم تجر الدعوة إلى تشغيله بشكل واضح ومباشر. إن ذلك العالم يعرف تغييرات، ففيه كثرة السكان والناخبين، وتطورت فيه الملكيات لتصبح أصغر فأصغر، ناهيك عن وجود عدد هائل من الفلاحين والمزارعين المعدمين الذين لا يملكون أرضا لحرثها، وكل ذلك يجعل عملية التحكم فيهم وفي أصواتهم أكثر سهولة. إن الأعيان في هذا الحيز، يعملون كدعامة للسلطة، ولذلك، فإنهم يحصلون على المقاعد بشكل مستمر. في الصحراء، أظهرت النتائج متغيرا جديدا، فقد سيطر "البام" هناك بعد مرحلة طويلة من هيمنة حزب الاستقلال.. على ماذا يؤشر ذلك؟ لا أعتقد أن الأمر يتعلق بأي انتقال للهيمنة الانتخابية من حزب إلى آخر في الصحراء، وكل ما حدث هو أن حزب الاستقلال لم يعمل على إدارة وجوده في الحكومة بشكل جيد، وهو ما أبعد عنه الأعيان الذين يبحثون عن مراكز نفوذ. ومع ذلك، فإن ما يقوم به هذا الحزب في مدينة العيون على سبيل المثال، لا يمكن تجاهله. وصحيح أن الأحزاب الوطنية القديمة تفقد قوة دفعها بسبب صعوبات تطورها الذاتي، إلا أنه بإمكاننا أن نتوقع رؤيتها تتوهج مرة أخرى في المستقبل. خسرت الأحزاب الكبرى الكثير من قوتها، وبعضها تحول إلى حزب صغير كما حدث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهناك تحليل يشير إلى أن "البام" راكم حصيلته الانتخابية انطلاقا من قضم المقدرات الانتخابية للتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاستقلال والاتحاد.. هل يمكن القول إن نموذج الأحزاب التقليدية في طور التآكل؟ إذا نظرنا إلى هذه الأحزاب عن طريق مقارنتها مع حزب العدالة والتنمية، فإنها ستبدو لنا كتنظيمات متعبة تفتقد إلى الحيوية. فهي هيئات بدون إيديولوجية إن لم يكن من الأفضل القول بأنها من دون فكر. كما أن نخبها لا تترك سوى الأثر السلبي في النفوس، وهي غير واضحة في طريقة عملها أو مبادرتها. كما أنها من جانب آخر، تخاف بشكل كبير من السلطة التي يراكمها حزب العدالة والتنمية في الوقت الحاضر. ولهذا السبب، فان هذه التنظيمات تفقد صلتها بالأرض كما يقال ليس فقط، نتيجة للحملة الهجومية لكل من حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة (وإن كانت طبيعتهما مختلفة)، ولكن بسبب اختناقها هي نفسها، وكأنها لا تملك أي طاقة أو ديناميكية يمكن أن تمنع سقوطها. الآن، ومع قرب انطلاق مفاوضات تشكيل الحكومة، إلى أي حد يمكن تصور أن قرارات التحالف أو عدمها يمكنها أن تُبنى بمعزل عن أي تدخل خارجي أو توجيه من مراكز نفوذ خارج الأحزاب في حد ذاتها؟ من المؤكد أن تدخل السلطة لا يمكن استبعاده في هذا الإطار. لكني أعتقد بصدق أن هذه الأحزاب الصغرى وصلت إلى لحظة الحقيقة: إما الاستمرار في روح التنافسية والاستقلالية، وإما الانكماش أكثر حتى درجة التحنط. يجب ألا ننسى حتى وإن خفضنا من المعايير، أن لهم إمكانية التفاوض بشأن المشاركة في الحكومة، ويمكنهم التفاوض مع كلا الجهتين من أجل تقوية مواقعهم، ولكن كل ذلك يبقى نظريا حتى نتأكد من رؤيته. إن هذه الأحزاب يديرها أشخاص، أحيانا بقصر نظر، إذ تحفزهم في غالب الأحوال، مصالح قصيرة الأجل، ويمكن لهذا أن يدمر تلك الأحزاب برمتها. دور وزارة الداخلية في الانتخابات ليس دورا تقنيا يرى بعض المراقبين أن وزارة الداخلية لم تعد قادرة على التلاعب في نتائج الانتخابات بسبب المقدرة التي أظهرها البيجيدي على مراقبة صناديق الاقتراع، وإعلانه النتائج قبل ساعات من إعلان وزارة الداخلية.. هل يمكن القول إن البيجيدي وضع حدا لأحد وجوه سيطرة الداخلية على ملف الانتخابات؟ إن المشكلة في نظري، لا تكمن في دور وزارة الداخلية التي تحتفظ بدورها المركزي في الإشراف على الانتخابات. ولكن المشكلة الحقيقية في نظري تكمن في مركزها هي كوزارة للسيادة داخل الحكومة، لكونها لا تخضع لسلطة رئيس الحكومة. يوجد في هذه القضية شيء غير طبيعي. إن دور وزارة الداخلية في الانتخابات ليس دورا تقنيا يتعلق بحماية أو حفظ العملية الانتخابية من الاختلالات أو أي شيء آخر من هذا القبيل. ولكن وظيفتها تمتد إلى ما هو سياسي، لكونها تعتمد على السلطة المركزية التي هي بدورها منخرطة في المعركة الدائرة بخصوص الحصول على مقاعد في مجلس النواب. هناك اليوم مشكلة أخرى تقفز إلى الواجهة لتزيد في تعقيد هذا الجانب من عمل وزارة الداخلية في ملف الانتخابات، وهي وجود متدخلين آخرين في إدارة الشؤون الأمنية يمارسون أدوارا مباشرة في هذه العملية أيضا. وبهذه الطريقة، فإن ما ينتج عن هذه العملية المركبة هو انعدام التماسك والتجانس في تدبير الإدارة الانتخابية، وتبعا لذلك، لم تعد وزارة الداخلية في نهاية المطاف، مستقلة بذاتها، ولا تتمتع بأي مقدرة ذاتية على التحكم في وسائلها.