كما وعد وزير العدل والحريات السادة القضاة (حوالي 4000 قاض)، فقد رفع من أجورهم أول أمس، وابتداءً من هذا الشهر ستتغير الأرقام في ورقة أدائهم الشهري حيث أضيفت إلى مرتباتهم 3000 درهم للدرجة الأولى، و4000 درهم للدرجة الثانية، و5000 درهم للدرجة الثالثة، ومن المنتظر أن تعرف الدرجة الاستثنائية إحداث ثلاث درجات وسطها: الممتازة والرفيعة وخارج التصنيف، بمناسبة إقرار القانون الأساس للقضاة، ما يعني أن زيادات أخرى قادمة لأصحاب هذه الدرجة. الزيادات الأخيرة في رواتب قضاة المملكة تعد من أكبر الزيادات التي عرفتها أجور السادة القضاة منذ عشرات السنين. الزيادات الحالية ليست كبيرة وليست صغيرة، لكن إذا عرفنا أن هذه الزيادة تجيء في مناخ الأزمة الاقتصادية، وكثرة الضغوط على المالية العمومية، وتضخم كتلة أجور موظفي الدولة (105 مليارات درهم كل سنة)، يمكن أن نقدر حجم هذه التضحية التي سيدفعها المغاربة من جيوبهم لقضاتهم مقابل الشروع في إصلاح أحوال العدالة المعطوبة. هي إذن زيادات في الرواتب مشروطة بالشروع في إصلاح مرفق العدالة، وبداية تخليق مرفق القضاء الذي صار الجميع، في الداخل والخارج، يشير إليه بأصابع السوء، وكونه قضاء تنخره الرشوة والتبعية للسلطة والبطء وعدم الكفاءة... النيابة العامة ستخرج من خيمة وزارة العدل قريبا، والمجلس الأعلى للقضاء لم يعد لوزير العدل فيه كرسي، صارت للمجلس استقلاليته المالية والإدارية، ورئيسه سيعين من قبل الملك، وداخله هناك هيئات حقوقية وتمثيلية للمجتمع المدني، والشيء نفسه بالنسبة إلى الوكيل العام للملك الذي سيعين من قبل الملك، وسيكون مستقلا عن الحكومة، كما جاء في مسودة القانون التنظيمي. المفتش العام وجهازه هو الآخر سيخرج من وزارة العدل، وسيجلس بعيدا عن الجهاز التنفيذي... إذن سيتابع المغاربة من اليوم وصفة مصطفى الرميد لإصلاح القضاء، ليس في الأوراق، ولا في التصريحات البرلمانية والتلفزيونية، ولكن في الأحكام وجودتها ونزاهتها واستقلاليتها، وفي الاحتكاك اليومي مع المحاكم ومع الكوميساريات، ومع الشكايات، ومع التحقيقات، ومع مكاتب وكلاء الملك... هنا سنختبر وعود الإصلاح، وهنا سنبحث عن المقابل المادي الذي سيخرج من جيوب دافعي الضرائب إلى القضاة. لكن دعونا نقول كلمة صريحة وبلا دبلوماسية للسادة القضاة... إذا كان من بينكم من يتصور أنه يجب أن يكون غنيا فقط لأنه قاض فهو مخطئ، وإذا كان فيكم من يظن أنه يجب أن يسكن فيلا فخمة في العشر سنوات الأولى لعمله فهو مخطئ، ومن كان يتصور أنه سيركب مرسيدس ب80 مليون سنتيم فهو مخطئ... وظيفة القاضي ليست سلما قصيرا للوصول إلى الغنى، وإجراء مقارنات، بين أوضاع المحامين الكبار المادية وأوضاع القضاة، لا يصح، لأن المحاماة مهنة حرة، فيما القضاء مهنة عمومية، وفي كل بلاد الدنيا رواتب ومداخيل المهن الحرة أكبر من الوظائف العمومية. القضاء شرف ومسؤولية ومكانة اجتماعية وأجر عند الله ورأس مرفوعة بين الناس، قبل أن يكون راتبا وفيلا وسيارة فاخرة وحسابات في الخارج، من هنا يدخل الشيطان إلى نفوس بعض القضاة، ويصور لهم الأمر وكأنه حيف يطالهم، كيف يأخذ قاضي الدرجة الاستثنائية 25 ألف درهم، بينما يأخذ محام 100 مليون سنتيم في ملف واحد، إذن الحل هو وضع يد قاض ضعيف في يد محام فاسد. الزيادات الأخيرة لن تدفع من أدمن من القضاة على مد يده إلى الأظرفة الكبيرة إلى مراجعة نفسه.. الزيادات الأخيرة ستساعد فقط القضاة النزهاء على مواجهة الإغراء الذي يحيط بهم كل يوم، وعلى مواجهة تكاليف العيش ضمن الطبقة الوسطى، بما يحفظ كرامة القاضي، هذا كل شيء، أما القضاة الذين يرون أنفسهم ضمن الطبقات الغنية وحتى المترفة، فإن 5000 درهم أو حتى 50 ألف درهم شهريا لن تساوي عندهم شيئا أمام ما يحصلون عليه من أموال وأعطيات وامتيازات مقابل بيع ضمائرهم لمن يعطي أكثر. الرهان كل الرهان في مغرب اليوم على ميلاد جيل جديد وسط القضاة، يعرف قيمة البذلة التي يلبسها، ويعرف قيمة الوظيفة التي يقوم بها في الدنيا، ونوع الحساب الذي ينتظره في الآخرة. القضاء مهنة نبيلة، والسلطة الموضوعة في يد القضاة أمانة في أعناقهم، فليس هناك أخطر ولا أعظم من دمعة تنزل من عين مظلوم، أو آهات تصدر في جوف الليل من صدر مسجون ألقي به ظلما وعدوانا في غياهب السجون، أو يد ترفع إلى الله تدعو على قاض لم يراع حقوق الله في البشر.