لم تكن مسيرة العار في الدارالبيضاء تفصيلا في الحياة السياسية المغربية، ولم تكن خطأ ارتكبته السلطة بتواطؤ مع حزبها فقط، ولم تكن تسخينات لحملة انتخابية بطعم جديد فقط، ولم تكن محاولة لمواجهة بنكيران بسلاح الشارع الذي كان يهدد به، ولم تكن مجرد عملية غير أخلاقية جرى فيها الخلط بين رموز الوطن الجامعة ومجريات السياسة المختلف حولها.. مسيرة: (جميعا ضد أخونة الدولة والمجتمع) كانت تعبيرا عن المستوى الذي وصلته الحرب ضد حزب العدالة والتنمية، وضد الاقتراع الحر والمنافسة المفتوحة يوم السابع من أكتوبر… كان المخطط، حسب المؤشرات الظاهرة، يقضي بإنزال عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى أكبر مدينة في المغرب، حاملين شعارات المسيرة الخضراء (صور الملك وأعلام المملكة)، في محاولة لإضفاء طابع وطني على المسيرة، وليس فقط طابعا سياسيا أو احتجاجيا، وهذا ما عبرت عنه زهرة الغنضور، عضو مجلس جهة مراكشآسفي عن حزب الأصالة والمعاصرة مثلا في الفيديو الذي سجلته عن مشاركتها في مسيرة الدارالبيضاء حيث قالت: (يسعدني أن ألبي نداء الوطن وأن أشارك في هذه المسيرة…). كان المنتظر أن يتفاعل البيضاويون مع الوافدين على مدينتهم من الجهات الأربع للمملكة، وأن تتحول تظاهرة الآلاف إلى مسيرة الملايين ضد بنكيران وحزبه، وبعدها يجري استثمار هذه (الهبة الشعبية المفبركة) ضد حزب العدالة والتنمية، باعتباره حزبا عدوا للأمة المغربية، وباعتباره جسما دخيلا عن الإجماع الوطني (جماعة إخوانية) تريد أن تخترق الدولة بعدما اخترقت المجتمع، وأنها توظف الدين أبشع توظيف للوصول إلى السلطة، وهي جريمة تتراوح عقوبتها بين الإعدام أو السجن أو التحجيم السياسي؛ الإعدام بحل الحزب المسؤول عن هذا الانحراف الخطير في مسيرة دولة وأمة علمانية، والتحجيم يعني الخضوع إلى «ريجيم» انتخابي قاس يقضي بتقليص المصباح لمشاركته في الانتخابات المقبلة، كما حصل في استحقاقات ماضية… لكن، وبما أن المسيرة فشلت ولم تتسع رقعتها في شوارع البيضاء، ولم يتفاعل معها الناس بغير التهكم والسخرية. فإن الجميع تبرأ منها، وابتعد عنها، بل إن أبواق السلطة لم يخجلوا في تحميل بنكيران مسؤولية خروج البسطاء والفقراء إلى الشارع ضده، لأنه (إخواني مندس)، ولأنه نزل بالقاموس السياسي الراقي إلى الحضيض، ولأنه ببساطة يتباهى بقدرته على ضبط الشارع. هذا المقلب المستورد من أدبيات الثورة المصرية المضادة فشل في المغرب، وانقلب السحر على الساحر، بل وأعطى مفعولا مضادا، بحيث جعل بنكيران يظهر في صورة (المظلوم) الذي يتلقى الصفع على خده الأيمن فيدير خده الأيسر وهو يُشهد الناس على ما يتعرض له من ظلم وتحرش وابتزاز، وقد كان رئيس الحكومة ذكيا إلى درجة أنه تجاهل المسيرة أثناء الإعداد لها ورفض إصدار بيان بعد فشلها، واكتفى بالقول للفقراء والمهمشين الذين استعملوا كأذرع بشرية للتحكم (من أجلكم أنا هنا، ومن أجلكم أتحمل كل هذه المتاعب، ولهذا فأنا أسامحكم على كل الإساءات التي صدرت عنكم في حقي، لكني لا أسامح الذين دفعوكم إلى هذه المهزلة وموعدي معهم يوم الاقتراع). تجييش الناس وحملهم مثل الدواب إلى الشارع ومحاولة توظيفهم ضد حزب سياسي معترف به، وضد حكومة منتخبة وفق الدستور، سلاح لم يستعمل قط من قبل الدولة حتى في زمن الجمر والرصاص، حتى في الوقت الذي اقتربت أجندة بعض المعارضين من أجندة الانقلابيين، لم تفكر السلطة في استعمال الكتل البشرية والمسيرات المخدومة ضد الأحزاب السياسية، لأن الدولة كانت تعرف خطورة هذا السلاح على استقرار الدولة ووحدة المجتمع… السؤال الآن هو ما هي الحدود التي ستقف عندها هذه (الممانعة) إزاء حزب الإسلاميين المعتدلين، وإزاء اختيار فئة من المغاربة لهم، وإزاء قواعد اللعب الديمقراطي؟ هل ستصل الحمى التي تضرب الرؤوس إلى درجة اقتحام حرمة الصناديق وتغيير نتائجها وإعلان التزوير الفائز الأول في الانتخابات؟ هناك جوابان عن هذا السؤال، الأول يقول لو كان في نية السلطات أن تنتهك حرمة الاقتراع بالوسائل البدائية التي كنا نعرف، ما لجأت إلى كل هذه الأساليب الناعمة التي استعملتها إلى الآن للتضييق على وهج المصباح، بدءا من رفض اعتماد البطاقة الوطنية للمشاركة في الانتخابات، ومرورا بتقليص عدد التسجيلات في اللوائح الانتخابية ورفض تسجيل حمّاد القباج خارج القانون، ووصولا إلى الضغط على بعض المرشحين لتغيير وجهتهم وتهميش وزارة العدال والحريات في لجنة الانتخابات انتهاءا بتنظيم مسيرة مخدومة واللعب بنار الفرقة الوطنية …وهذه القراءة المتفائلة نسبيا ترى أن كلفة تزوير الانتخابات لا يحتمل لا في قمة الدولة ولا في هرمها وإن صوت العقل سيتدخل في النهاية بعدما يرى أن مفعول التضييق على إرادة الناس محدود. وهناك قراءة أخرى تقول إن الذي أقدم على كل هذه الأخطاء والتجاوزات والنكوصات والمغربات بتعبير وزير العدل إزاء التحضير للانتخابات، لن يقف عند هذه الحدود، ولن يجعل من خسارته خسارتين، خسارة صورته كطرف محايد لا يتدخل في الانتخابات، وخسارة نتائج الاقتراع بصعود العدالة والتنمية إلى المرتبة الأولى. إن الآلة بدأت، ولن تتوقف حتى تنهي المهمة، وإن الجهات إياها تتصور أن الصبر على مخاطر التلاعب بالانتخابات تحت إشراف ضحاياها اهون من الصبر على حكومة جديدة يقودها بنكيران، الذي تزداد شعبيته يوما بعد آخر ويصير مزعجا يوما بعد آخر. ليس لنا من نصيحة لأحد، سواء للذين يشرفون صوريا على انتخابات يَرون عذريتها تنتهك كل يوم وهم ينتظرون نهاية سعيدة لبداية تعيسة، أو الذين يخططون لإقفال القوس الذي فتح سنة 2011 دون مراعاة للرأي العام، لكن المغاربة يقولون حكمة بليغة: (اللي كيحسب بوحدو كيشيط ليه).