لم يكن صديقا عاديا، فتحت عيني عليه منذ نعومة أظافري، في البدء، كان خيالا جميلا يحملني إلى سرير النوم في هودج سريالي مهيب، ثم ازداد تعلقي به لما اقتربت منِّي مسافة الوعي والإدراك! علّمني صديقي معنى الحياة، وحلّق بي وأنا طفل صغير عبر عوالم غير مرئية تنشد المثال والكمال والجمال، وأصر أن يغير نظرتي للدنيا، فإذا هي نظرة قلقة، أرقة، عميقة تارَةً، حالمة هائمة شاعرة متفائلة، تارة أخرى! وعلمني أسباب الحضارة، وأطلعني على أسرار الأمم، وقال لي اسمع يا صديقي: هذه الأمم التي أفلحت وعلا كعبها أنا من وضعت أكاليل المجد على رأسها. ولم يكن صاحبي كاذبا. وعلمني رهافة الإحساس، وصدق المشاعر، وقيمة المعنى وجمالية اللفظ، والنضال إلى الرمق الأخير، والجهر بالحق، وأن أكون موضوعيا رزينا ثابتا على سراط مستقيم. وَعَبْرَ ألفاظه ومعانيه عرفت أن للقلب سلطان، وللعقل كلام، ونظرت بعينيه إلى جمالية الكون: وأشعة الشمس وهي سعيدة بالشروق، ثم وهي باكية خلف أطراف النخيل، وكتبت بِيَرَاعِهِ الشعر والرواية لغة الكون وأنشودة الحياة! وعلمني أن أبكي بحرقة في لحظة الحزن، وبذات الحرقة أبكي في لحظة الفرح: لا جنسية للدموع ولا شكل لها، هي كالمطر المدرار، تدفع بالأرض أفقيا نحو الحياة. حيث الشذا والندى والطلاَ وأشجار الربيع! ونبذت من قاموس صديقي الأقنعة، والأصباغ، والأشواك الدامية، يقول لي: كُنْ نسيما عليلا، فألا حسنا، مهجة حانية، ولا تكن ريحاً صَرصَراً، ونذير مفزعا، وفأساً قاسية. كن حَليبًا للرضيع يبدأ به أولى خطواته في الحياة. لم يكن صديقي سعيدا بما آل إليه، وجدته منزويا مهموما يلوذ إلى صمت غريب، لم أشأ أن أسأله عما ألم به، فأنا وقفت على حال صديقي، قال لي: لم أعد مثل ما كنت في الزمن الجميل، أنا يا حبيب العمر غريب في وطني مثل عُلبِ التخزين. أرشيف أو صفر على الشمال، من حولي يجري المتهافتون، بدوني يصلون إلى ما يعتقدونه منتهى الكمال، وينشدون الأمل بلا مخاض ولا وجع الدماغ، وأنَا كما تراني أحْسِبُ أيامي الأخيرة في هذه الدنيا. أشفقت على صاحبي، فأنا من يعرف قيمته، أنا أعبده وسأبقى من عَبدته، وهؤلاء الجاحدون حوله مخطئون بسوء الاختيار، وهو الصادق الأمين. توفي صاحبي مهموما، مغموما، مدموما، توفي مبتورا من صفحة الأيام الجميلة، تنكر له بنو وطنه، ولم أتنكر له أنا. أحبه سليما ومعافيا، مريضا وعليلا، حيا وميتا، هو دائما مرفوع الرأس ثابت القدمين، سلطان عقلي وفؤادي: هل تعرفون من هو صديقي؟ هو من قال عنه أبو الطيب المتنبي: خير جليس في الدنى سرج سابح وخير أنيس في الأنام كِتَابُ. هل عرفتم من يكون: إِسْمُه...........لا داعي للجواب!!