في الأشهر الأخيرة من العام الجاري، ستصير مدينة كوبيرتينو بشمال كاليفورنيا محج الباحثين عن آخر ما تفتقت عنه عبقرية شركة "آبل": معلمة دائرية الشكل قريبة من سفينة فضائية حطت فوق الأرض فقط لتحقق حلما رواد طفلا صغيرا قبل عقود ماضية. الطفل هو ستيف جوبز والسفينة هي المقر المستقبلي ل"آبل". أشهرا قبل وفاته سنة 2011، تنبأ ستيف جوبر، مؤسس آبل وصاحب فكرة المقر الجديد بأن سفينته الفضائية ستصبح "أرقى مقر اجتماعي مؤسساتي في العالم"، وأن الناس سيتوافدون عليه من كل حدب وصوب لمد البصر في جماله. لتحويل حلم جوبز إلى حقيقة، كد 13 ألف عامل بناء طوال سنوات خلف جدران سميكة وشاهقة بموقع المقر الجديد بمدينة كوبيرتينو بوادي السليكون (منطقة صناعية بكاليفورنيا تتخذ منها الشركات الرائدة عالميا في مجال التكنولوجيا مقرا لها). في بداية العام، كانت الأشغال تجري في سرية، ولم يكن يمكن رؤية سوى رافعات بناء وكتلة ضخمة من الرمال ترتفع بمئات الأمتار عن الأرض، وكأنها أحد أهرامات مصر الشامخة. فلا شيء يضاهي معلمة آبل الجديدة غير أهرامات مصر العظيمة. هذه المعلمة التي تزين واجهات مبانيها ذات الأربعة طوابق قطع زجاج متموج باهظ الثمن صنع لأول مرة بأحجام كبيرة قادما إليها من ألمانيا. وبتكلفة تناهز 5 مليارات دولار، ربما يكون هذا المقر الاجتماعي أغلى مقر اجتماعي على مدار تاريخ الشركات. جوهرة "آبل" المعمارية آخر خرجة جماهيرية لستيف جوبز كانت خلال اجتماع لمجلس مدينة كوبيرتينو طلب خلاله الحصول على ترخيص لتنفيذ مشروعه العبقري، الذي يعد من جهة تعبيرا تفاخريا عن ثروة "آبل" ومزارا أنيقا يخلد رؤية مؤسس الشركة. وسيكون المقر الجديد مشتلا ل 9 آلاف شجرة، متناغما مع الطبيعة، حيث ستملأ الأشجار والزهور والخضرة محيطي المقر الدائري، الخارجي والداخلي، تماما كتلك البساتين الخضراء الخصيبة التي كبر بين سنابلها الطفل ستيف جوبز. "وادي السليكيون يوجد اليوم في أوجه المعماري"، يقول ليويز موزينغو، الباحث بجامعة كاليفورنيا بوركلي. العام الماضي فتح فايسبوك مقرا شاسعا بمنلو بارك بهذه المنطقة الصناعية الهدف منه التعبير عن ثقافة الشركة المتحررة من الرسميات. بتصميمه الشبيه بخزان كبير، يعتبر المقر أكبر فضاء عمل مفتوح (لا توجد مكاتب خاصة ولا جدران فاصلة بمكان العمل) في العالم. بالمقابل، تجرب شركة "غوغل" فكرة ثورية لبناء مقر جديد يحتضن عمارات زجاجية متحركة، فيما تخطط شركات مثل "إن فيديا" و"سامسونغ" و"أوبير" لإنفاق ما مجموعه حوالي مليار دولار على بنايات جديدة تترجم قصص نجاحاتها. هذه المشاريع العمرانية تعكس تحولا ثقافيا في وادي السليكون التي ظلت شركاته تفضل المقرات القريبة من المعامل التقليدية والمرائب (شركتا آش بي وآبل بدأتا في مرأب) على مقرات الواجهة. لكن في كل هذه المشاريع، يبقى مشروع آبل الأضخم. باختيار الشركة للمهندس فوستر، الذي صمم ملعب ويمبلي بلندن الذي يبدو سابقا لزمانه، راهنت آبل على جماليات المعمار الحديث. المبنى الذي يبدو أيضا مثل نسخة مكبرة من الزر الدائري بهواتف الآيفون، سيكون عند إتمامه في مثل أناقة ونخبوية منتجات الشركة. فايسبوك..المقر "اللاهندسي" وفيما تبحث "آبل" عن بناء جوهرة معمارية، سعى عملاق التواصل الاجتماعي فايسبوك على العكس من ذلك إلى تشييد مقر في قمة البساطة. "المبنى 20 (اسم المقر الجديد لفايسبوك بمنلو بارك بوادي السليكون) يلبي الغرض من إحداثه، ولا يوجد أدنى تكلّف في تصميمه" تقول لوري غولير نائبة رئيس الموارد البشرية بالشركة، فيما يصف جون تينانيس، الذي يشرف على المشاريع العقارية للشبكة الاجتماعية، المقر الجديد ب"اللاهندسي"، ويؤكد أنه صُمم ليكون فقط "عمليا وبسيطا ومفتوحا ويحفز على تكوين بيئة عمل منتجة". وبالفعل تصميم المقر في منتهى البساطة: موقف سيارات تحت أرضي، عاملون يشتغلون في مكان واحد، فضاء مفتوح، وباحة الاستراحة والأكل في سطح المبنى. لا أحد –ولا حتى مارك زاكربورغ – يمتلك مكتبا خاصا به. ويفسر عملاق التواصل الاجتماعي هذا الاختيار الهندسي بفلسفته القائمة على ربط الأشخاص ووصل الناس، ما يجعل تبنيه فضاء مفتوحا للعمل، نظريا، يقع في قلب توجهاته المهنية. غوغل..مقر يتحرك يتقلص ويتمدد من بين كل تلك المشاريع الهندسية، تبقى أفكار "غوغل" هي الأكثر طموحا وجسارة في هذا المجال. فقد ارتأت الشركة أن تبحث عن طرق مبتكرة لجعل مقراتها قابلة للتمدد والتقلص. تعاقدت الشركة مع المهندسين طوماس هيثرويك وجارك إنجلز اللذين خرجا بفكرة غير مسبوقة توافق هوى الشركة. الفكرة هي بناء مجموعة متحركة من المباني الزجاجية يمكن مدها وتقليصها، وكأنها قطع من لعبة "ليغو"، حسب تغير حاجيات مصالح وأقسام الشركة. وسيحتاج المهندسان لتحقيق الفكرة إلى تصميم رافعة من نوع خاص مهمتها إعادة ترتيب وتوزيع هياكل المباني كل مرة يتطلب الأمر ذلك. فبعدما غزت عدة صناعات ومجالات، تحاول "غوغل" اليوم زعزعت مفهوم مركزي في الهندسة: جمود المباني. عوالم خاصة أم حواجز ؟ يبقى أن هذه المباني على جمالها وعبقريتها الهندسية، تهدد شركات وادي سليكون بفقدان شيء مهم في المستقبل البعيد. فتاريخيا، ازدهرت شركات التكنولوجيا بالوادي نتيجة تلاقي الأشخاص في الأماكن الاعتيادية من مكاتب ومقاهي ومطاعم، حيث كانت تمر الأفكار والكفاءات بسهولة بين الشركات وداخلها. لكن اليوم، وبما أن الشركات بدأت تبني عوالمها الخاصة، فربما تبني أيضا أسوارا وحواجز، وتربك نمطا من العلاقات وأسلوبا في العمل أنتج الأفكار والمنتجات التي جعلت شركات التكنولوجيا الأمريكية تصل إلى أوج الريادة. بتصرف عن الملحق الثقافي ل"ذي إيكونوميست"