ليبيا إلى أين ؟.. هو سؤال يتردد على ألسنة الكثير من الليبيين ومتابعي الشأن الليبي من أبناء المنطقة العربية ومن خارجها..غير لا أحد يستطيع الجواب بالقطع والوثوفية على سؤال المستقبل. صحيح من حق المرء التفاؤل، ومن واجبه ، في السياسة تحديدا، الدفع بالتفاؤل قُدماً إلى الأمام، تيمناً بالقول المأثور " تفاءلوا بالخير تجدوه"، غير أن الواقع يقول إن ليبيا اليوم تواجه صعوبات كبيرة وعميقة لإعادة بناء ذاتها الجماعية وكيان عيشها المشترك، وأن إعادة اللحمة إلى مكونات نسيجها الاجتماعي والسياسي والثقافي والقبلي، تحتاج إلى خطوات جماعية جبارة، وأحوج ما تحتاج إليه امتلاك الشجاعة لتغليب الولاء للوطن، على باقي الولاءات الأولية الأخرى. فقد حلّت قبل أكثر من شهر الذكرى الخامسة لإسقاط نظام " معمر القذافي ) 17 فبراير 2011 ( دون أن يعيش الليبيون مُتعة الاحتفال بحراكهم الاجتماعي، ويتذوقوا ثمار انتصارهم على أثنين وأربعين عاماً من القهر السياسي ، بل وجدوا أنفسهم أمام وضع متأرجح بين التمزق والفشل..فلا هم حققوا حُلم تضحياتهم من أجل بناء دولة جديدة بشرعية م ومؤسسات جدبدة، ولا هم تغلبوا على فُرقتهم وتنازع إراداتهم وفتحوا أفقاً حقيقياً لإعادة تأسيس ليبيا الجديدة..ليبيا ما بعد الثورة بمتطلبات روح الثورة. وللمرء أن يتساءل هل كان جديراً بالليبيين أن يقبلوا في الذكرى الخامسة لانتصارهم على أطول نظام مُستبد في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة أن ترفع طائفةٌ منهم عَلَم البلاد في طرابلس، وعلى مسافة 450 كلم منهم يَرفع تنظيم " داعش" "رايةَ الجهاد" في مدينة سرت الساحلية؟؟. قد يقول قائل تلك مفارقات التغيير، وكل تغيير حَمّال بطبيعته للمفارقات.. ألم تعِش الثورات الكبرى في التاريخ مفارقات وأضداداَ وإن بأشكال مغايرة؟. ثم إن التغيير مفتوحٌ على المدّ والجزر، والصعود والنزول، والأهم في النهاية أن تأخذَ جدليةُ التغيير طريقَها القويم وإن بعد وقت طويل..وقد يَستدِلُّ أصحابُ هذا الرأي بما حدث للثورة الفرنسية، والروسية وغيرهما..الجواب أننا أمام حالة ) ليبيا( لا تنطوي على عناصر المقارنة، وكما يقول الفقهاء " لا قياسَ مع الفارِق". فليبيا ورثت تركةً ثقيلة ًمن النظام المُنهار، ورثت فراعاً مؤسسياً على كل الصُّعُد، ووجدت نفسها أمام فراغ مُهول لكل منظمات التواصل والوساطة، من أحزاب، ونقابات، وجمعيات مدنية، وحتى الجيش ظل مفتقداُ لمقومات الجيوش العصرية ، من عقيدة، وولاء للبلاد، واستعداد للدفاع عن الكيان الجمعي لليبيين. ثم إن النعرة القبلية والعشائرية التي سعت الدولة الوطنية بعد الاستقلال ) 1951 1969 (إلى تذويبها في مشروع بناء الاندماج الوطني ، تمّ إحياؤها من جديد بأساليب وطرق كثيرة، أبرزها التمييز غير المشروع، وشراء الولاءات بالتوزيع غير العادل للريع النفطي، وشراء الذمم، ناهيك عن الإختلالات الترابية على صعيد الجهات والمناطق. ليس في مُكن متابع العملية السياسية في ليبيا التفاؤل بقدرة الوضع الداخلي الليبي على الانعطاف في إتجاه تدعيم خطوات المصالحة الوطنية ، كما وضع خُطاطة مسارها أتفاق " الصخيرات"، على الرغم من الإعلان عن تشكيل الحكومة المصغرة، والتفاؤل بقدرة أعضائها على المضي قُدماً نحن المصالحة الوطنية، وإنقاذ البلاد. ويبدو في المقابل صعوبة الإقدام على قرار التدخل العسكري المباشر، كما حصل للناتو في بحر العام 2012. وإذا ثبت التدخل فعلا بعد عملية قصف صبراتة، مع ما قد تعقبها من عمليات، فإن كثيرا من التطورات ستشهدها الساحة الليبية، وقد تكون لها آثار سلبية على العملية السياسية برمتها، لأسباب تتعلق باعتراض مجمل مكونات المشهد السياسي والمدني الليبي على التدخل الأجنبي..إن ليبيا في حاجة إلى دعم أدولي وإقليمي يعزز فرض السلام والمصالحة في ربوعها، لا إلى زيت تُصبُّ في النار المشتعلة، فتؤجج لهيبها أكثر فأكثر. ومع ذلك، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه بناء ليبيا الجديدة، فإن الخطوات التي انطلقت في مدينة صلالة العمانية في محافظة ظُفار، الخاصة بالتوافق على الصياغة النهائية للدستور ، إن هي لقيت النجاح المطلوب ستفتح أفقأ لليبيين لإعادة امتلاك قدرتهم على تضميد جراحاتهم والتغلب على استعادة كيانهم المشترك.