تعيشُ فرنسا منذ الأحداث الإرهابية الواقعة في شهر نونبر الماضي موجة متنامية من النقاش العمومي حول الآليات الدستورية والمؤسساتية التي تضمن الأمن والاستقرار للبلاد وترفع عن أبنائها الشعور المتصاعد بفقدان الاأمان وتراجع قيمة العيش المشترك في مجتمعهم. ولأن السياق العام لهذه النقاشات مركب، وتتداخل في تشكيل صورته الكثير من المعطيات، فقد غلبت عليه وتحكمت في مساراته الإعتبارات الأمنية، والسياسية، والإيديولوجية ، والرهانات الإنتخابية ، والتفاعلات الدولية. بيد أن على الرغم من كثافة هذه العناصر مجتمعة، فقد طغىت على خطابات النخبة السياسية الفرنسية قضيةُ تعديل الدستور، لتُصبح حالةُ الطوارئ مكرسةً في تص الوثيقة الدستورية، وليقع الإعتراف بمقتضى الدستور ب " إسقاط الجنسية" لكل من تورط في عملية إرهابية من شأنها الإضرار بأمن البلاد وحياة الأمة. لم تحظ الإجراءات التي شدد عليها رئيس الجمهورية الفرنسية لتمكين بلاده من استعادة أمنها بإجماع الطبقة السياسية حتى من داخل حزبه، بل انقسم الرأي العام الفرنسي بين داعم لها، ومعارض لانعكاساتها الممكنة والمحتملة. فحالة الطوارىء كانت موجودة منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد رأى الكثيرون عدم وجود مبررات مُقنعة لتكريسها في نص الدستور. أما " اسقاط الجنسية" فقد شكل موضوع خلاف حاد، خصوص حين تم حصرُه في مزدوجي الجنسية، قبل أن يُتراجع عن هذا التخصيص، ويُعمم على كل مرتكبي الجزائم الإرهابية، حتى وإن كانوا من حاملي الجنسية الفرنسية ليس إلا. لنستحضر استقالة وزيرة العدل " كريستيان توبير" يوم الأربعاء 27 يناير 2016، تعبيراً عن عدم اتفاقها مع هذا الإجراء، قائلة: المقاومة تكون بالبقاء أحياناً وبالرحيل أحياناً أخرى… لتكون الكلمة الفصل للأخلاقيات والحق". لقد شرع البرلمان الفرنسي فعلا في مناقشة التعديلات المقترحة، حيث تمت المصادقة على مشروع " اسقاط الجنسية" بأغلبية ضئيلة من قبل أعضاء الجمعية الوطنية، والأمر نفسه بالنسبة لدسترة حالة الطوارئ، قبل أن يُصار إلى مجلس الشيوخ، وبعدها تتم المصادقة على المراجعة كاملة في جلسة مشتركة لمجلسي البرلمان بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه. فالراجح أن الإجراءات التشريعية لن تجد اعتراضات من شأنها التأثير سلباً على عملية المصادقة على التعديلات الدستورية، وإن كان الإنقسام حاصلا داخل ليسار واليمين على حد سواء. وبعد، هل ستحد الإجراءات الدستورية الجديدة من موجة الإرهاب التي ضربت فرنسا بقوة شهر نوفمبر الماضي؟. ثم ما معنى فتح باب تعديل الدستور في ظرفية استعداد فرنسا للإنتخابات الرئاسية السنة المقبلة؟. لاشك أن للقانون، بمختلف مراتبه، دورا مركزيا في استتباب الأمن والأمان، غير أنه يحتاج إلى متطلبات أخرى داعمة له، ومعززة لمفعول تأثيره على بث روح الشعور بالإستقرار والطمأنينة . ومن هنا لن تكون التعديلات الدستورية المُراد إدخالها على الوثيقة الدستورية ناجعة وفعالة، ما لم تُصاحبها تغييرات عميقة في مقاربة فرنسا والفرنسين عموما لمعضلة الإرهاب ومصادر ولادته. والحقيقة أن المراجعة لا تنحصر في صياغة علاقة جديدة مع المصادر المسؤولة عن لجوء المنتسبين إلى الجنسية الفرنسية إلى ثقافة الإرهاب فحسب، بل لها صلة أيضا بمواقف فرنسا وممارساتها على المستوى الدولي، وتحديدا تورطها في أغلب نزاعات المنطقة العربية وأكثرها تعقيدا. وقد شاع إبان أحداث باريس الأخيرة كيف أن فرنسا تؤدي فاتورة تدخلها في ليبيا وسوريا والعراق، كما أدت منذ مدة ثمن سياستها تجاه أجيال المهاجرين وقاطني الأحياء والضواحي المَقصية. لذلك، سيكون القانون مهما، غير أنه يصبح أكثر أهمية وفعالية حين يُعزز بسياسات متوازنة تُجنب فرنسا حافة الإنحياز غير المدروس للقضايا غير العادلة. إلى جانب ما سبق بيانُه، يبدو الأفق الإنتخابي القادم) 2017( حاضراً، إن لم يكن ضاغطاً على معالجة الأمن بالقانون. فالمتابع لنقاشات النخبة الفرنسية يلمس هذا المُعطى، وفعله المباشر وغير المباشر في اصطفافات الأحزاب وتقاطباتها.. كما يسمح هذا البُعد بتفسير نتائج السلوك التصويتي لأعضاء البرلمان على مشروع التعديل الدستوري. ونرجح أن يبقى هذا الهاجس حاضرا لما تبقى من هذا العام، وربما سيزداد حدة في قادم الأيام. لذلك، فالإجماع الفرنسي الذي ولدته قوة الضربات الإرهابية، يحتاج إلى إجماع حقيقي حول سبل المقاومة من أجل استرداد الأمن والأمان، لا إلى نقاشات دستورية وقانونية، على أهميتها، محكومة بسياق سياسي انتخابي.