في المغرب مفارقة عجيبة.. الغني والفقير يحلمان بالهجرة إلى الخارج، والغني والفقير «يحركان» أو يحلمان بالعيش في أوروبا وأمريكا… يكمن الاختلاف في الطريقة التي يفر كل واحد منهما من بلده ووطنه ومسقط رأسه.. الفقير يهرب إلى الخارج بطرق شرعية وغير شرعية، يبحث عن زواج أبيض من ابنة العائلة المهاجرة، أو زواج مصلحة من عجوز بيضاء تبحث عن إنعاش فراشها بشاب من الجنوب. الفقير يستعين ب«الباطيرا» يحرك بها إلى الضفة الأخرى، أو يشتري عقد عمل للانتقال من الجحيم إلى النعيم المتوهم. الغني يفعل الشيء نفسه مع اختلاف بسيط.. إنه يرحل ثروته أو جزءا منها إلى الخارج، ويبقى هو في البلد قابضا على جواز سفره، مستعدا، في أي لحظة، للالتحاق بماله في الخارج. بعض الأغنياء أو القادرين على دفع آلاف الأوروهات يستخرجون أوراق إقامة في الخارج وهم مقيمون في المغرب مؤقتا، وبعضهم يشتري جنسية كندية أو يحمل زوجته للولادة في أوروبا أو أمريكا حتى يكبر الصغار وفي جيوبهم جواز سفر أجنبي. مناسبة هذا الحديث هو التقرير الحديث الذي صدر الأسبوع الماضي عن منظمة النزاهة العالمية (GFI)، الموجود مقرها في واشنطن، والذي يتحدث عن «فرار» أربعة ملايير دولار من المغرب كل سنة، حيث فقد اقتصاد البلاد أكثر من 40 مليار دولار في العشر سنوات الأخيرة، وبهذا استحقت المملكة عن جدارة المرتبة 34 عالميا، والثالثة إفريقيا، والخامسة عربيا في تهريب الأموال. وقال التقرير إن أغلبية هذه الأموال المهربة تخرج من ثقب التلاعب بالوثائق والمعاملات التجارية، حيث يتم تضخيم فواتير الاستيراد لكي يجري الإبقاء على جزء من هذه الأموال في الخارج، أو يتم تخفيض القيمة المصرح بها من الصادرات، حيث يجري الاحتفاظ بجزء من المال في الخارج. هذا، طبعا دون الحديث عن التهريب التقليدي للمال عبر الحدود والمطارات، حيث يجري تحويل الدرهم إلى عملة صعبة في السوق المحلي ثم إخراجها في حقائب إلى الخارج، والبحث عن وسطاء لإدخالها في النظام البنكي المتشدد في أوروبا وأمريكا. ما الذي يدفع الأثرياء والطبقات الوسطى العليا إلى إخراج جزء من ثروتهم إلى الخارج، والبحث عن موطئ قدم في أوروبا وأمريكا؟ دعونا نستبعد أولا الأموال المتحصل عليها من أنشطة غير مشروعة (مخدرات، رشوة، تهرب ضريبي، سرقة، إرهاب…). هذه الأنشطة الإجرامية تبحث عن أماكن لإخفاء مصدر ثرواتها في الخارج، ولهذا وجب وضع قيود على حركتها ومطاردة أصحابها وتطبيق القانون. نحن نتحدث هنا عن الأموال المتحصل عليها من طرق مشروعة لكن أصحابها يفضلون وضعها في بنوك الخارج عِوَض حسابات في الداخل.. هؤلاء أنواع؛ فيهم من لا ثقة له في استقرار البلد، ويطبقون بالحرف القاعدة التي تقول: «الرأسمال جبان»، ومنهم من لا يطمئن على سلامة ممتلكاته في الداخل، لأن يد السلطة طويلة ويد القضاء قصيرة، وهو يخشى عادة قديمة كان يستعملها المخزن مع الأتباع والأعداء على السواء، وهي «التتريك» بطرق خشنة أو ناعمة، ومن هؤلاء الذين يختارون تهجير أموالهم إلى الخارج من لهم مشاكل مع قوانين الصرف التي وضعها الاستعمار الفرنسي، وبقيت إلى اليوم تكبل حركة الرأسمال المغربي ونشاطه في الداخل والخارج، دون مراعاة للدستور والحقوق التي يقرها (جل القيود الموضوعة على الصرف وعلى نشاط المغاربة في الخارج هي عبارة عن قرارات إدارية ومذكرات وضعها مكتب الصرف دون قانون ولا برلمان ولا حتى مراسيم لوزراء المالية). الكلام الذي قاله رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران, في البرلمان قبل أسابيع، من أنه متأكد أن شركات التدبير المفوض تخرج جزءا من أرباحها خارج المغرب بطرق غير مشروعة، جاء تقرير منظمة النزاهة المالية العالمية ليؤكده، ومع ذلك لا نتوقع أن تتحرك الحكومة لسد هذا الثقب الذي يحرم الميزانية والأبناك والدورة الاقتصادية من مليارات من الدولارات المغرب في أمس الحاجة إليها خاصة في هذه الظروف الصعبة. لقد تحولت سياسة الصرف في المغرب إلى أكبر مشجع على تهريب الأموال إلى الخارج، وقد حان الوقت لمراجعة هذه الترسانة القانونية المتناقضة مع الدستور، ومع مسطرة التشريع العادي، ومع حركة العولمة وحقوق الإنسان. يجب التفكير في إدماج سياسة الصرف مع السياسة النقدية للبلاد، واعتماد طرق ذكية وليِّنَة للتعامل مع حاجيات المغاربة المشروعة إلى العملة الصعبة في الخارج، حتى لا يضطر بعضهم إلى تهريب الأموال بطرق غير مشروعة. الباقي كله أجوبة سياسية عن مشاكل الثقة في البلاد، ومستقبلها واستقرارها، وعدالة قضائها، لا حاجة إلى التذكير به.