إمساك العصا من الوسط لا يحل دائما المشاكل، بل أحيانا يعبر عن تأجيل الأزمات لا حلها، وظيفة الحكومة أن تحل المشاكل المعقدة لا أن تديرها، خاصة إذا كانت مشاكل تهدد الاستقرار. كنت أنتظر من السيد رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أن يأتي إلى البرلمان يوم أمس للجواب عن أسئلة النواب حول حرائق «أمانديس» في الشمال، وتحت إبطه حل جذري ونهائي لمعضلة التدبير المفوض لأهم سلعة استراتيجية في البلاد، وهي الماء والكهرباء، لكنه جاء ليقرأ جملا باردة كتبتها الإدارة حول التدبير المفوض وتاريخه وطبيعة عمله، وبعض الاختلالات التي تطبعه، ثم ألقى المسؤولية على الجميع، ووعد بمراجعة عقود التفويض، لكن السؤال الذي لم يجب عنه رئيس الحكومة هو: من سيراجع هذه العقود؟ ومن سيراقب تطبيقها؟ ومن يملك الجرأة والنزاهة لكي يقاضي هذه الشركات إذا أخلت بالتزاماتها؟ وزارة الداخلية جزء من المشكل وليست جزءا من الحل، وهي تتحمل القسط الأكبر من هذه الأزمة، فكيف سنعول عليها لحل المشكلة؟ التدبير المفوض لقطاع حساس ليس حلا سحريا، كنّا إزاء مشكل نجاعة المرفق وبطئه مع نظام الوكالات المستقلة للماء والكهرباء، وصرنا اليوم أمام مشكل «نهب جيوب المواطنين». هذا النمط من التدبير يهدد اليوم الاستقرار والسلم الاجتماعيين. لم يتصرف رئيس الحكومة إزاء هذه الأزمة كمسؤول سياسي بيده القرار العمومي وأذنه على أنين المواطنين، بل تصرف كتقنوقراطي أو كإطفائي يريد إخماد الحرائق لا البحث عن أسباب الحريق والعمل على عدم تكراره. إذا كان الطنجاويون والتطوانون قد تفهموا تدخل الملك محمد السادس على خط هذه الأزمة، «ودارو بوجهو» عندما بعث رئيس الحكومة إلى طنجة لطمأنة السكان والتعهد بحل الأزمة، وتوقفوا عن التظاهر في الشارع العام خوفا على السلم الاجتماعي، وخوفا من استغلال التظاهرات من قبل أطراف سياسية تبحث عن مدخل مناسب للنفخ في الرماد عل الشرارة تعاود الاشتعال، فهذا لا يعني أن «نسكت» الناس بحماية مراجعة الفواتير وإعادة تقسيطها على سنة، والوعد بمراجعة عقود التعاقد… إن امتناع المواطنين عن الخروج بكثافة إلى الشارع لا يعني أن الناس قد بلعوا إهانات شركة «أمانديس» وتلاعبات الشركات الأجنبية بجيوب المواطنين لأن الإدارة المغربية إما عاجزة عن المراقبة أو متواطئة مع المشتبه في استغلالهم لهذا المرفق للاغتناء غير المشروع. الكثير من المدن تغلي اليوم بسبب الفواتير المشتعلة للماء والكهرباء، والجميع يعرف أن المراقبة غائبة، وأن العقود التي وقعت تحت مظلة وزارة الداخلية مجحفة، وأن دفاتر التحملات التي وضعت لهذه الشركات كتبت فوق الرمل. ما هو المشكل الحقيقي لهذه الأزمة التي تهدد السلم الاجتماعي اليوم؟ المشكل هو أن الدولة اتخذت قرارا خطيرا ومعقدا وحساسا، يتمثل في تفويض سلعة استراتيجية، مثل الماء والكهرباء، إلى شركات أجنبية دون أن تضع إطارا قانونيا وعقلانيا أو هيكلا مؤسساتيا حديثا وهيئة للتقنين والرقابة، وتركت أيدي الشركات الأجنبية طليقة في مرفق عام منذ التسعينات، حين كان وزير الداخلية سيئ الذكر إدريس البصري يفرض وصاية مطلقة على الشأن المحلي. اليوم شركات التدبير المفوض هي خصم وحكم في الوقت نفسه، تزود ملايين المواطنين بالماء والكهرباء، وتضع العدادات في البيوت، وهي من تقرأ هذه العدادات، وهي من ترسل الفواتير، وهي من تجمع الأموال، وهي من تؤدي أجور بعض المراقبين «المغفلين» الذين تضعهم الجماعات في عهدة هذه الشركات، وهي من تقرر متى تستثمر ومتى لا تستثمر، وفي نهاية كل سنة نكتشف أن جزءا مهما من إرباحها خرج في شكل فواتير مضخمة مع شركات أجنبية تابعة لمجموعتها أو قريبة منها، والغرض هو تهريب الأرباح حتى لا تؤدي عنها الضريبة على الشركات في المغرب. إذا كانت الحكومة غير قادرة على توقيف «البيضة في الطاس» مع هذه الشركات الأجنبية، التي تمتلك أسنانا وأظافر وأذرعا في المغرب والخارج، وإذا كانت الحكومة لا تمتلك تقييما موضوعيا ودقيقا للمشكل، فلا أقل من أن تنشئ مؤسسة أو وكالة للتقنين مثلما هو معمول به في قطاع الاتصالات، حيث وبمجرد أن خوصصت الدولة هذا القطاع حتى أنشأت وكالة تقنين الاتصالات، التي تراقب عمل شركات الاتصالات وتقنن القطاع، وتلزم المتعهدين باحترام القانون واحترام التسعيرة، وضمان جودة الخدمات والموازنة بين مصالح المواطنين ومصالح الشركات.. بين إكراهات المرفق العام وحركة الرأسمال، أما ترك مهمة المراقبة لموظفين «بسطاء» أمام شركات أجنبية تمتلك من الدهاء والذكاء ما لا يخطر على بال الإدارة والمنتخبين، فهذا له اسم واحد.. التلاعب باستقرار البلد. منذ قرون يقول المغاربة: «المال السايب يعلم السرقة»، ومال الفقراء اليوم لا حارس له، ونظام التدبير في البلاد ينظم الفساد ولا ويشرّع الإصلاح، يطبق قانون الأقوى لا قوة القانون.