بحسه السياسي الرفيع كان الملك الحسن الثاني يستشعر النهاية، وكرجل خبر دهاليز السلطة ومر بمنعرجات الحكم الخطيرة، أدار المرحلة الأخيرة من حكمه بكثير من البراعة، ففي شهوره الأخيرة، رتب لأول حكومة يقودها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، برئاسة محامي اكتوى بنار السياسة وخبر عتمة الأقبية ولسعة السياط، كان اسمه عبد الرحمان اليوسفي، من نفس جيل الملك الحسن الثاني.. يكبره ببضع سنوات، أظهر رغبة كبيرة في حمل أمانة لاحت ثقيلة، ومن رحم كل تلك الترتيبات ولدت حكومة سميت ب»التناوب التوافقي» شهر مارس عام 1998، وبإعلان ميلادها دبَت روح جديدة في جسد السياسة المغربي المترهل، وكأنها قطرة الغيث التي سقت الحقل، وصار القاموس يزخر بكلمات التحديث والإصلاح والتغيير التي ضخت الكثير من الأوكسجين في رئتي بلد يختنق. في ذلك الشهر بالذات، حدثنا أستاذ لنا عن التغيير الذي يقع في المغرب رغما أننا -في سنة الباكلوريا- لم نكن نملك عقولا قادرة على فك طلاسم السياسة والأحداث الجارية، فكلمة سياسة لم تكن إلا مرادفا لكلمة سجن واعتقال، هكذا تمت تربيتنا منذ نعومة أظافرنا، صمت أستاذنا برهة وقال لنا إن كل شيء يتغير إلا الإعلام رغم أن الملك الحسن الثاني اختار رجلا نزيها ليكون وزيرا للإعلام هو محمد العربي المساري، كانت تلك أول مرة أسمع فيها بالاسم، لكن كانت للاسم رنة جعلته يحفر كالوشم في الذاكرة. ودفة السياسة بالمغرب تنعطف يسارا، سيعلن في ذروة فصل الصيف عن وفاة ملك البلاد يوم 23 يوليوز1999، كان ذاك هو اليوم الذي تلقيت فيه نبأ نجاحي بمعهد الإعلام بالرباط، وكأن كل شيء كان قد انتهى في ذلك اليوم بالذات، ليبدأ كل شيء مرة أخرى من جديد… وبعدها بأشهر قليلة، رأيت العربي المساري لأول مرة، عندما زارنا كطلبة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، أنيقا، مؤدبا، بنظرات هادئة، وبشوشا، يدخن سيجارته بهدوء ويناقش المتحلقين حوله، كانت تلك أول مرة أرى فيها وزيرا عن قرب، كنت أبحث في تقاسيم وجهه عن أجوبة لأسئلة محيرة، لماذا لن يتغير الإعلام؟ فالرجل يبدو صادقا وبأفكار واضحة وعزيمة قوية ليتغير كل شيء. مع مرور الشهور، لم يستطع المساري أن ينقل مشروعه من أرض الأحلام إلى أرض الواقع، لأن الطريق بين الأرضين كانت مليئة بالثعابين، فلوح بتغييره للعقليات، لكنه في لحظة ما اقتنع بأن التغيير في حقل الإعلام أشبه بالمشي فوق حقل ألغام، فطلب إعفاءه من مهمته، ثم خرج مع أول تعديل وزاري شهر شتنبر 2000. غادر العربي المساري الوزارة وفي نفسه الكثير من المرارة، وعاد إلى شغله اليومي المعتاد، القراءة والكتابة، لم يرفض يوما عرضا لإلقاء محاضرة حتى لو كان في آخر كيلومتر مربع من هذا الوطن، يأتي بشوشا متأبطا محاضرته التي سهر في إعدادها، وحدث أنني كتبت يوما مقالا بجريدة «الصباح» عن إصلاح الإعلام ذكرته فيه بخير دون سابق معرفة بيننا، فاتصل بي في الجريدة وقال لي كلمة لم أنسها «كانت قراءة منصفة»، لم أفوت الفرصة فطلبت منه حوارا مفصلا عما حدث معه في وزارة الإعلام، فلم يرفض طلبي والتقينا لأول مرة بمكتبه بمقر حزب الاستقلال شهر ماي 2003. كان جالسا أمامي يحكي بالتفاصيل ما حدث معه بوزارة الإعلام ويدخن بنوع من العصبية المعجونة بكثير من الألم، بعدها أعددت الحوار للنشر، لكن ليلة نشره صادفت تاريخا أسودا هو 16 ماي 2003، حكى الرجل القصة كلها لكن لا أحد انتبه إلى الحوار وسط تلك الجلبة والصدمة التي خلفها تفجير 14 انتحاريا لأنفسهم بالدارالبيضاء. مع الوقت ستربطني بالرجل، رغم فارق السن، صداقة خاصة، بعدما اكتشفت خصال النبل فيه وعشقه للثقافة، ففتح أعيني على حب قديم هو الثقافة الإسبانية، ووجدتني أنساق وراء ملف العلاقات المغربية-الإسبانية، ولم أكن وحدي من حدث معه ذلك، بل جيلا بأكمله رباه العربي المساري على التعمق في الملف، فالرجل قدوة ومعلم، يفتح سبل التفكير أمامك، وكل جلسة معه متعة ما بعدها متعة، وحتى عندما جعلتني الأقدار أحمل حقيبتي وأرحل إلى مدريد كان دائم السؤال عن أحوال أهل قشتالة، يستقبلني عند كل زيارة لي إلى الرباط ونتبادل المعلومات والقصص عن أهل العدوتين، حكيما، مطلعا، أبا رؤوفا… كان يعلم اقتراب النهاية عندما اشتد به المرض، فأسر لصديق لنا أنه يتمنى أن يصحب معه بعض الكتب إلى العالم الآخر حتى لا يمنعه الموت من أكبر متعه في الحياة الدنيا: القراءة… رحيلك موجع وبطعم الفاجعة… رحمك الله السي العربي. صحافي ب»ميدي 1 تيفي»