اعتاده القراء والباحثون أستاذا أكاديميا متخصصا في أكثر المواضيع حساسية وتعقيدا. يطرح الأسئلة المقلقة، ويسائل التاريخ البعيد والقريب من زاوية الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ، وهو المنطلق من تخصص اقتصادي. كتب عن «العبد والرعية» في أحد أشهر كتبه، وأشرف على كتاب نشره مجلس الجالية المغربية في الخارج يشرح معاني أسماء الله الحسنى ويكشف جماليتها. شرّح «المخزن» في منطقة سوس الأقصى، ووضع العبودية تحت المجهر في علاقتها بالإسلام. هو حاليا أحد أكثر الكتاب والمفكّرين نشاطا وحضورا في الشبكات الاجتماعية، في تدوينات شبه يومية تعلّق وتنتقد وتفسّر. هذا الركن فسحة جديدة ل«تدوينات» مختلفة، ترصد تحوّلات الواقع بعين محمد الناجي. التدوينة الثانية تلتبس كلمة «رمضان» بمعنى العذاب، فهي مشتقة من الرمضاء أي شدة الحر، فهو معاناة في وسط صحراء تحترق بلهيب الشمس، ما يصرفنا للقول إن الصيام لم يكن منذ بداياته الأولى طقسا ممتعا، لكن هذا العذاب لم يكن له معنى إلا في اقترانه بمبدأ الاختيار، وبهدف جليل هو الرغبة في التسامي نحو الله، وارتقاء الروح المؤمنة به حقيقة ومجازا. فالجسم يتخفف من غذائه المعتاد ليتغذى بأحاسيس روحانية ترتق جسرا يربطه بأفق السماء. وحينما يفرض الإنسان على نفسه هذا الحرمان يتخلص من شروط إنسانيته، ليجوب أمكنة أخرى ويطوف بها لتحضره الرؤيا، وينفذ الصوت الحق إلى أذنه. إجمالا، هكذا كانت سيرورة الأنبياء والأولياء والقديسين، يجتازون المراتب، ويحررون الجسد من الارتهانات الأرضية. هذه هي الطريق التي سار فيها كل أتباعهم الباحثين عن السر والجوهر المنفلت من خلال هلوسات يتسبب فيها هذا الحرمان. ليس بإمكان أي كان الصيام، فهو طقس لا يقدر عليه كل الناس، هذه هي الحقيقة. ومن الأكيد أنه ليس طقسا لمن ينتظر دون صبر ساعة الإفطار، في الوقت الذي ينتظر فيه القديسون إحقاق القطيعة مع هذا الغذاء. هذه السمة الروحانية لرمضان لا تجد حيزا لها في مجتمع يعطي مكانة عظمى للطعام، ويغرق في موائد عامرة، فيهبط إلى الأسفل عوض أن يرتقي، ومثل هذا الرمضان لا معنى له. وقد حان الوقت لتفادي الصورة الرمضانية التي في مخيلة المتيمين بالفطائر والحلويات (الشباكية، البغرير…)، وجعل هذا الطقس اختيارا لا يحتاج إلى الاستعراض والمباهاة، فالقديسون كانوا يهتدون إلى الكهوف والمغارات ليصوموا لا ليتجشؤوا، ولم يكونوا بحاجة إلى إعلان تقواهم. المشكل في شهر رمضان يكمن بشكل جلّي في طول مدة الصيام. ففي المجتمع الإسلامي الأول، كانت فترة الصيام في البداية يوما واحدا، اتّباعا للنموذج اليهودي السائد حينها. بل إن هذه الممارسة (الصيام) كانت سابقة على وجود الإسلام، وبعد ظهور هذه العقيدة الجديدة وترسّخها، وقع التميّز عن الممارسات القديمة السائدة حينها بين الساكنة، وذلك من خلال إطالة مدة الصيام على غرار إجراءات أخرى مماثلة كتغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، حيث أصبحت لهذا الدين الجديد شخصيته الخاصة. ومن الطبيعي أنه عند المؤمنين الأوائل، الذين كان الدين يمثل بالنسبة إليهم معركة مستمرة، وسعيا دائما إلى السيطرة على الذات، لم يطرح تمديد فترة الصيام أي مشكلة لديهم. إضافة إلى أنه في مجتمع يقوم على الرعي والتجارة، فإن رخصة الإفطار لأعذار مثل المرض والسفر جعلت الأمر أسهل في محيط يتعايش فيه الدين الإسلامي مع ديانات أخرى، وحيث لا يسود صوم رمضان كما هو عليه الحال في مجتمعاتنا الحالية، أي أن النظام الاقتصادي السائد وقتها لم يتضرّر، بل كانت له الأولوية. أما اليوم، فشئنا أم أبينا، ومن خلال الملاحظة المجردة للواقع، تبدو لنا مدة الصيام الطويلة تنطوي على مفارقة كبيرة بالنظر إلى النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم. ففي السابق، أي في بدايات الإسلام، وفي ظل مدة صوم قصيرة تتمثّل في يوم واحد، كان المؤمنون يتمتعون بكامل الحرية لصوم ما شاؤوا من أيام إضافية دون أن يسبّبوا أي إزعاج للوسط الذي يعيشون فيه، أو يفرضوا عليه إكراهات بسبب أمر اختاروه بشكل إرادي. فالصوم لا يكتسب قوّته إلا حين يكون إراديا، وحين لا يمسّ بالالتزامات الاقتصادية والاجتماعية في إطار الجماعة. علينا أن نتطرّق إلى هذا الموضوع بشجاعة ووضوح، وإلا فإن الصوم سيفقد رسالته في ظل صمت منافق ومتواطئ.