عندما قرّر آدم أن يعيش"، إصدار جديد، للكاتب رشيد خالص، يدخل عالم الرواية من بابه الفسيح لأن الحكيَ فيه سلِسٌ باحترافية شديدة تُمسِكُ بالانتباه وبالعقل، وتجبِرُ على الجلوس احتراماً لنيةِ القراءة التي تأتي لا محالة. تدور الأحداث حول شخصيةٍ محورية تحمل اسم "آدم معفوف"، رجلٌ من الفئة البسيطة الذي اكتشف بعد عودته من ثكنات الجيش أنه شخص ميت -إدارياً- مع أنه يتمشّى ويتنفسُ ويأكل ويشعر بوخزات الألم والأمل. يحاول آدم جاهداً استعادة هويته الملغاة ويمر من سلسلة مغامرات، دامت عشرين عاماً وحُكمينِ مَلكيَين. أحداثُ تزجّ بالقراء في معمعة من الأسئلة والمشاعر والمفاهيم والمبادىء، تقطَعُ أنفاسهم في انتظار اكتشاف ما سيكون، ما سيعيشه آدم بعد، ما سيختار أن يغوص فيه من البحرين اللذان يقف بينهما حائراً كشجرة اختفت من حولها الغابات: بحر الحب مع امرأة عشقها وعشقته وصار انعدام هويته وامتهانها للدعارة مجرد تفاصيل مزعجة في قصتهما؟ أم بحر التوبة الأحمر الذي يهلك فيه الإرهابي الانتحاري مع أُناسٍ ارتأى لهم الرحيل وهم يمارسون أنشطة عادية وتافهة لا تليق بموتى مستقبليين. رواية بحكمة وادي أبي رقراق، وبإيقاع الجَلَبة الإنسانية التي من حوله، شخصيتها الأساس تحتضن شخوصاً وأحلاماً وكوابيس عديدة، والتباعد باذخ وصارخٌ بين ألوانِ بعضها وسواد البقية. لكن كل شخص، كل لون، كل نقطةِ سواد يأتون بفِكرة أعقل أو أكثر جنونا من أخواتها. آدم شخصٌ حيٌّ محكومٌ عليه بالتفكير حتى الموت، وبالحبّ الذي لا جذر له، والذي يشاهدُ فروعَهُ تسقطُ تِباعاً لتخصيب أرضٍ جاحدة. قد يظنّ المرء أن قصة كهذه تتسم بجدية عابسة، لكن البعد الساخر فيها يأتي كيَدٍ تُلوّحُ بتفاهة نظام العالم وعبثيته، فُكاهةٌ بطعمِ الرملِ تجعلنا نبتسِمُ بشيءٍ من المرارة من حال وطنٍ لا يبادلنا دائماً الحب ويجهضُ فينا أحياناً الرغبة في التمسكِ بالنقاء والنزاهة. هذا الوطنُ بعينه ما رسمه الكاتب بلسانٍ فرنسيٍّ فصيح بين دفّتي الكتاب، وبين ضلعي آدم. وآدم يُحاول أن يظلّ على قيد الحياة كان يفتحُ ضِلعيه الاثنين لشهرزاده التي لا تحكي، بل تعشق وتتوق إلى سماع حكايا حبيبها. هذا العنصر بالذات، بالإضافة إلى جمالية الأسلوب وإتقانِ اللعبة السردية والتشكيل البديع في الوصف الذي يُنافِسُ أجمل لوحات الدنيا، أقول هذا التفصيل بالذات يجعلنا على يقين أننا أمام عملِ كاتبٍ من عينة مختلفة، يضرِبُ بالفحولة الفكرية عرض الحائط وينفض من على يديه غُبار الذكورية الذي قد يعلَقُ بهما كلما قرأ لكاتب (أو كاتبة) ذكوري يؤمن بالأنثى لا بالمرأة، ويدعي -في نفس الوقت-الرجولة محلّ الذكورة. على يقينٍ ستكونون بعد قراءته أنه همَس لكم: "مستقبل العالم هو المرأة، لهذا السبب أخذت الحبيبة في روايتي دور شهريار، وتركت لحبيبها مهمة حياكة الحكايات وسردها، وبهذا، لم يكن لصياحِ أي ديكٍ في العالم القدرةُ على إيقافهما عن الكلام المُباح. هناك كتُبٌ تُقرأُ بِحبٍّ لأنها -وعلى الحزنِ والظلم والضياع الذي فيها- تحتَوي الحبّ في حلة اليأسِ النقية، لأنها كُتِبت بحب. "عندما قرر آدم أن يعيش"، رواية لرشيد خالص، أستاذ في المدرسة العليا لتكوين الأساتذة وفي الجامعة الدولية، شاعر وكاتب وفنان تشكيلي. ثقافته شاسعة تمتد من مكتبة فرانسوا ميتيران إلى المكتبة الوطنية، سخاؤه بلا حدود، قد يكتُبُ لقرائه إهداءاً، وقد يستعيدُ النسخة بعد ثوان، إذا لم يكن هناك زحام، ليرسم لوحةً فورية-فنيةً بقلم حبرٍ على الصفحة الموالية للإهداء. Quand Adam a décidé de vivre. Ecrit par Rachid Khaless et publié aux éditions "La croisée des chemins"/ 2015