يختلط لدى الكثير منا «التأويل» ب»التفسير»..والحال أن الأمر يتعلق بمصطلحين مختلفين في المعنى والدلالة. فالتفسير لغة من فسّر، بمعنى: «أبان» و»كشف». أما اصطلاحا فيُقصد به «إزاحة الإبهام» عن اللفظ المشكل في إفادة المعنى المقصود. في حين يعني التأويل في اللغة: «الرجوع إلى حيث المبدأ». فتأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته. لذلك، يكون الفرق بين المصطلحين واضحا من حيث أن المُراد من التفسير إزاحة الغموض الحاصل في اللفظ، في حين يروم التأويل تبيان المراد الحقيقي، أي رفع الخفاء عن الحقيقة. وإذا كان التفسير لا يطرح الكثير من المشاكل بالنسبة إلى النصوص المقدسة، فبالأحرى الوضعية، فإن التأويل، خلافا له، حمّال وجوه، ومفتوح بطبيعته على الاختلاف في النظر، وقد يُفضي، في أحايين كثيرة، إلى الإضرار الجسيم بالنصوص، بتحميلها ما لم يكن واردا في تفكير، ولا في مقاصد واضعيها الأصليين. لذلك، أُحيطت بعملية التأويل العديد من الآليات الاحترازية، كي لا يخرج المُؤَوِّل عن نطاقه، فيُنتج، عبر سلطة تأويله، نصوصا جديدة مختلفة جوهريا عن تلك التي تولى تأويلها. تكمن خطورة التأويل في المعاني والدلالات الجديدة التي يضفيها المؤوِّل على النص موضوع التأويل. وإذا كانت من لوازم التفسير الارتباط بالنص، أي بمفرداته وألفاظه، أي لغته عموما، وعدم الانفصال عنها، والاكتفاء بتوضيحها ضمن دائرة النص. فإن التأويل، خلافا لذلك، يُتيح للمُؤوِّل لانفصاله عن النص، قدرا كبيرا من الحرية في إعادة قراءته، كي يُجدد صياغته في ضوء المعطيات التي تحكمت في عملية تأويله. لذلك، يكون التأويل إنتاجا جديدا للنص، في حين يكتفي التفسير برفع الإبهام، وكشف الغامض من معاني الألفاظ والكلمات. لاشك أن من أهم أنواع التأويل وأخطرها «تأويل الدساتير». أما أسباب ذلك، فيرجع إلى أهمية الدستور ذاته. فهو أسمى وثيقة في البلاد، يتربع على عرش القوانين، ويسمو عليها جميعا. وهو الفيصل والحكم بين الدولة والمجتمع. يقيد الأولى [الدولة] ويرشد ممارسة سلطتها، ويحمي الثاني [المجتمع]، ويكفل حقوقه وواجباته. ولأن ثنائية الدولة والمجتمع، أو السلطة والحرية، غالبا ما يطبع طرفيها التوتر والتنافر، فإن الدستور وحده القادر على ترشيد علاقة هذه الثنائية، وخلق جسور التواصل البناء بين مكونيها. لكن إذا كانت الدساتير بهذا الحجم من الأهمية والخطورة، فإن إسناد وظيفة تأويلها لا تتم بالشكل الناجح والناجع معا، إلا إذا تولتها جهات تتوفر فيها مقومات القيام بهذه العملية باقتدار، وفي صدارة ذلك، الكفاءة المهنية، والنزاهة الفكرية، والموضوعية في الإنجاز. تعرف الطبقة السياسية في المغرب، وإلى حد ما المواطنون، كيف تعرضت دساتير البلاد، وتحديدا بعض أحكامها، لعمليات تأويل منتظمة في الزمن. ومن عباءة عمليات التأويل هاته، تراكمت ممارسات سياسية، وترسّخت في الثقافة السياسية السائدة، وتقررت أوضاع لم تكن نتائجها صالحة للبلاد والعباد..بل إن ردحا مهما من الزمن ضاع في سياقها، وساهم، وهذا هو الأخطر، في عدم تعظيم صورة الدستور في المِخْيَال الجماعي للمواطنين، وتكريس سموه وعُلويته. ولأن الثقافة السياسية الديمقراطية، والثقافة الدستورية جزء أساسي منها، عملية ذهنية تراكمية بامتياز، فقد غدا عصيّاً على الناس التفاعل الإيجابي مع أهم وثيقة في بلادهم، وهم يرون بعض أحكامها المفصلية، يُعاد إنتاجها بالتأويل غير السليم، وتؤسس على قاعدتها معاني ودلالات لم تكن واردة حين وضعها، أو على الأقل لم تكن واردة في خلد واضعيها أثناء التأسيس. حمل الخطاب المؤسس للجيل الجديد من الإصلاحات الدستورية والسياسية [09 مارس 2011]، أفقا للقطع مع التأويلات الدستورية السابقة، لاسيما المتراكمة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي [1983]، وشدّدت تفاعلات الطبقة السياسية على ضرورة اعتماد التأويل الديمقراطي للدستور الجديد..وإذا كانت الممارسة الراهنة لا تؤكد بشكل كبير العودة إلى التأويلات الدستورية السابقة، فإن الحاصل في الواقع لا يُقنع تماما بحصول قطعية نهائية مع الماضي.. ومع ذلك، يبقى خيارنا الأهم والأسلم أن نُنجح أفق التأويل الديمقراطي، ونقطع مع التأويلات الضارة لدستور البلاد.