كم كانت تدهشني شخصيا تلك الرسوم التي كنت أتابعها بين الفينة والأخرى في «خبار السوق» أو «تقشاب».. تلك الرسوم التي كانت، رغم بساطتها، تؤثث مراهقتي، وكنت أعجب كيف لتلك الخطوط البسيطة أن تخلف كل هذا الأثر.. كيف لهذه الرسوم المتقشفة والجافة أن تحمل كل تلك الشحنة التي كانت توقد فيّ الابتسامة، بل حتى القهقهات. وكنت أحس بأنها تحملني إلى الأقاصي، حيث تتخفف الأشياء من كل الزوائد ولا تحتفظ سوى باللب.. بالأساسي.. حيث تكفي خطوط بسيطة وضربة ريشة لقول الدفين، وللتعبير عن صرخة الألم بمداد السخرية. ولعل هذا ما جعل الكثير من بسطاء أهل «درب السلطان» بالبيضاء، حيث كنت أعيش، يُقبِلون مثلا على «خبار السوق» (هم على كل حال كان كثر في عين المراهق الذي كنته). ولعل تجربتي هذه الملفوفة في سذاجة المراهقة وأحلامها، هي التي جعلت «الكاريكاتور»، حينما يكون نابعا من حس إبداعي رفيع، يرتبط عندي بأمرين أحسهما دوما مترابطين، وإن بدا أنهما غير ذلك: النفاذ إلى عمق الأشياء، والتسامي على مظاهرها التي تضمر أكثر مما تُفصح. وهذا في تقديري يعطينا في النهاية تلك الرسوم الحادة التي تصرح بكل شيء وتلمح إلى أشياء وأشياء… لا شك أن القتلة الذين هاجموا صحيفة «Charlie Hebdo» الساخرة أول أمس بباريس، وقاموا بتصفية دماء 12 بريئا بدم بارد، كانوا يسعون إلى قتل هذه القدرة الإبداعية الصافية، حيث السخرية تمنح الإنسان «فرحة الإحساس بالتفوق على الطبيعة» حسب تعبير شارل بودلير. وبما أن القتلة يحاولون دائما التخفيف من وطأة جرائمهم على أنفسهم، فإنهم يبحثون لها دوما عن تبريرات. وليس من تبرير هذه الأيام أفضل من «الانتقام للإسلام وللنبي محمد». ولكن ما يجهله أو يتجاهله هؤلاء القتلة هي أن الرصاصات التي سفكت دماء الرسام العجوز «فولينسكي»، وزملائه في «شارلي إيبدو» «كابو» و«شارب» و«تينوس»، سنعاني من تبعاتها نحن.. أنا، وأنت، وهو، وهي، وكل أولئك الذين ولدوا في أرض يدين أهلها بالإسلام. وسنحمل آثارها مثل ندبة خفية لا نراها سوى في النظرات المتوجسة للآخر الذي لا يعرف عن الإسلام إلا ما يراه من سلوكيات مثل هؤلاء القتلة. هذا إن توقف عند النظرة المتوجسة فقط، ولم ينتقل إلى ما هو أسوأ. إن دماء هؤلاء الأبرياء لم تلطخ إسفلت مقر «شارلي إيبدو» فقط، بل أضافت لطخة كبيرة أخرى إلى صورة هذا الإسلام المسكين، الذي ارتبط رغما عنه في السنين الأخيرة بالدماء والقتل والتفجيرات. إن رصاصات القتلة أسالت دم هؤلاء الأبرياء، ولكنها لم، ولن تكسر أقلام المبدعين، سواء أكانت لرسامين أو لشعراء أو لروائيين. ولن تقتل أبدا تلك الابتسامة أو الضحكة التي تشرق من هناك.. من ذلك المكان القصي في الذات ونحن نشاهد الرسوم الكاريكاتيرية الحقة. ولن تنال من ذلك السحر الغامض الذي يغمرنا كلما وقفنا على رسم ساخر يكشف أمامنا، في خطوط معدودة ومتقشفة، ما خفي علينا وما استعصى على لغتنا المتلعثمة. بعد تنفيذ الجريمة.. وقف أحد القتلة وقال في الشارع «لقد قتلنا شارلي إيبدو»، لكن هذه الصحيفة الساخرة، التي لا تروق تصرفاتها لأنها لا تأبه للكياسة السياسية والاجتماعية، احتضنها الجميع بعد المجزرة ورفعوا لافتة: «je suis charlie»، مثلما نسارع إلى احتضان طفل جامح لا تعجبنا تصرفاته التي لا تقيم أي وزن للنفاق الاجتماعي التي دأبنا على الخضوع لها، فهذ الطفل يمثل بالنسبة إلينا المستقبل.. الأمل.. الحياة. تلك «الحياة» التي قال عنها المفكر إميل سيوران: «إنها هدية يقدمها للأحياء أولئك المهوسون بالموت».