كنت دائما أحس أن كلمة «ارحل»، التي اعتمدها المتظاهرون بالعالم العربي لا تعكس تماما حمولة «dégage»، التي خرجت مدوية من عمق الكائن التونسي قبل أربع سنوات في وجه الديكتاتور زين الدين بنعلي ونظامه. وكنت دوما أحس أن هذا المقابل العربي وديع ب«حائه» الصامتة، ويستطيع ربما ملامسة معنى اللفظة الفرنسية، ولكن حروفه اللطيفة لا تقوى بتاتا على حمل تلك الشحنة الملتهبة التي تقذفها حروف «ديكاج». ولكن «ارحل» اللطيفة هذه هي التي انتشرت في شوارع الكثير من بلدان العالم العربي، كأن الكائن العربي كان يريد التغيير الشامل، ولكنه يخشى ألا يكون قادرا على تبعاته ومتطلباته، وكان يعبر عن تلك الصرخة الملتهبة في دواخله بهذه اللفظة التي تحمل المعنى، ولكنها تكبتُ تلك الشحنة. وحتى الذين كانوا يفضلون كلمة «ديكاج»، كانوا يكتفون بحملها صامتة على لافتاتهم ولا يصدحون بها، إلا التوانسة الذين أصروا على الصراخ «ديكاج» في وجه «بنعلي»، وفي وجه «الاستبداد»، وفي وجه هذا الماضي القريب والبعيد، الذي تحول إلى مستنقع يعيق الخطى بدل أن يكون أرضا صلبة تساعد على السير قدما. ولعل غياب هذا الإصرار هو السبب في انتكاس ثورات الشعوب العربية الأخرى. فتاه بعضها في حروب أهلية وطائفية لا يبدو أنها ستنتهي في المستقبل المنظور، وارتأى بعضها التخلي كلية عن أحلام الثورة الكبيرة والقبول بالعودة إلى «بيت طاعة» الاستبداد، بينما فضّل بعضها الآخر الارتكان إلى وضع ملتبس يجمع بين تقدم طفيف في النصوص وواقع عنيد يأبى التزحزح. أما التوانسة، فلم يرضوا النكوص، وتقدموا بصعوبة، ولكن بثبات لحد الآن للخروج من مستنقع الاستبداد والتخلص من أثقاله، فكان المجلس التأسيسي، حيث خاضوا معركة الدستور، ثم انخرطوا في الانتخابات التشريعية ونجحوا في صد المد الإسلامي المحافظ، وها هم اليوم، ينجحون في تنظيم انتخابات رئاسية أفرزت نتائج تشبه تلك التي تعرفها الديمقراطيات الأوروبية (حوالي 55.6 في المائة من الأصوات لصالح الباجي قايد السبسي، مقابل حوالي 44.4 لصالح خصمه منصف المرزوقي)، وخرجت عن القانون المعمول به في هذا العالم العربي حيث لا يقبل الزعيم، سوى بنسب تفوق ال90 في المائة، هذا إن رضي أن يدخل انتخابات معدة سلفا على مقاسه. كل هذا يغمرني بإحساس يبهج النفس ويُنعشها، ويخمد ذلك التوجس والخوف اللذين يسكنان «واو الروح»، ولكنه لا يطفئهما بشكل كامل. ليس فقط، لأن الرئيس الجديد لتونس، الباجي قايد السبسي، من أقطاب نظام الحبيب بورقيبة، وإن لم يكن من رجالات نظام بنعلي، بل لأنني أحس أن تونس الآن، في مرحلة رفع القدم للقيام بالخطوة الأخيرة والحاسمة للخروج من مستنقع الاستبداد. وهذه مرحلة حسّاسة ودقيقة لأن التوازن يكون فيها هشا للغاية، وتتطلب ثباتا وتركيزا وسرعة لنقل تلك القدم إلى الأرض الصلبة للسير نحو تلك الديمقراطية التي مازالت بعيدة، وأن بدت لنا في تونس، نحن العطشى إلى مائها مثل التائه في الصحراء، قريبة وفي متناول اليد. لأن الديمقراطية كما قال المفكر عبد الله العروي مرة: «لا تحل بعد الثورة» ولا حتى بعد «تغيير شامل في الآفاق والنفوس»، بل هي، وفقا للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، «برنامج قد يستغرق أجيالا». إنها فعلا رحلة الآلف ميل، ولكنها رحلة تعد فيها مرحلة رفع القدم هذه حاسمة حتى يكون لتلك ال«ديكاج» معناها الكامل والحقيقي.