في 12 يوليوز المنصرم، بعث إليَّ أشرف جويد، وهو شاب مغربي هاجر إلى سوريا في فترة مبكرة، ويعرف عبر الأنترنت باسم «أبو أنس الأندلسي»، رسالة مقتضبة تنطوي على كثير من هواجسه الجديدة في أرض غير أرضه: «لقد ضاع مني حسابي عبر «الفايسبوك» عقب حملة تبليغ من الدواعش». وفي ال28 من شهر أكتوبر الفائت، أي بعد أربعة أشهر، أرسل إلي فجأة.. مقالة وقّعها باسمه يعلن فيها نفسه مدافعا عن «الدولة الإسلامية» ضد كل الشيوخ السلفيين المعارضين لمشروع «الدولة». كانت آخر محادثة أجريتها معه قبل هذه الرسالة، في 26 شتنبر الماضي، وكان قد أحدث حسابا جديدا على «الفايسبوك»، وسألني عن موعد الانتخابات في المغرب، ثم أطلعني على بعض معاركه غير القتالية ضد أفراد من «داعش». ماذا تغيّر في شهر؟ كيف تحوّل شاب، في غضون عام، من شخص يؤمن بأن «داعش» تفسد عليه «جهاده»، إلى واحد من جنودها المتعطشين، حسب ما يشاع، إلى الدماء؟ البحث عن «الحق» نشأ أشرف جويد في بيئة محافظة في نواحي مدينة تطوان، وبالضبط في بلدة المضيق، وهي، كما كانت عليه في تاريخها، قرية للصيادين، وكانت رغم الطبيعة المحافظة لسكانها، تسمح بوجود حانات في شارعها الرئيس. كان ميل جويد إلى السلفية باديا للعيان؛ كانت لدى هذا الشاب حواس يقظة إزاء ما يدور من حوله، وقضى مراهقته يبحث عن حقيقة حياته، وقد عثر على غايته في «موجة» التدين الجديدة.. لقد أصبح سلفيا ببساطة، وكي يعلن ذلك، لم يفعل شيئا أكثر من تغيير مظهر ملابسه. كان أشرف يبحث عن سعادته في سعيه نحو الحقيقة؛ لكنه ترك بعضا من شكوكه مخبأة في عقله. أبو حفص، محمد عبد الوهاب رفيقي، الشيخ السلفي الأكثر تأثيرا في الشباب، كان هدفا بالنسبة إلى أبي أنس في هذا المسعى؛ ولكن حتى أبا حفص لم يستطع فعل شيء، وربما لم ينتبه إليه على الإطلاق؛ لكنه يعرفه شابا شغوفا يرغب في أن يعرف كل شيء من كافة زواياه الحادة. حينما وصل أشرف جويد إلى سوريا سألني عما إذا كان أبو حفص قد كتب شيئا في حقه، ثم طلب مني أن أسأل أبا حفص عنه، وقد فعلت ذلك، غير أن جواب هذا الشيخ السلفي لم يكن سوى عبارات تحمل الكثير من المفاجأة: «كنت أعرفه، وقد كان شابا تغلبه الحماسة، لكنني لم أكن أتصور أن بإمكانه أن يحزم حقائبه ويغادر نحو سوريا.. لم يكن يظهر قناعة صلبة في هذه القضية». ومع ذلك، وحتى وإن كان أشرف قد صنع بيديه ما لا يمكن أن يتصوره أبو حفص، إلا أن التقدير الذي يحمله له لم يتغير. وحتى اليوم، مازال يسأل عن أخباره دون كلل. في يوليوز الفائت، كانت لدى أشرف شكوى: «تصنفني الصحافة في بلدي ضمن «الدواعش»، وهم يضعون صورتي في صفحات مليئة بصور القتلة الحقيقيين.. يجب ألا يحشروني في هذه الزاوية، فهم يشطبون على جهد كبير ضيعته في مواجهة الدواعش». جهاد بلا دم كان أشرف قد تحدث معي، بعد يوم من وصوله إلى سوريا. وكان، بالكاد، يتصل عبر هاتفه بشبكة الأنترنت. وبالنسبة إليه، فقد كانت الفرحة كبيرة، وهو يمد ذراعيه نحو رفاقه الجدد في حركة «أحرار الشام الإسلامية». كان مفعما بالاعتزاز وهو يعلن بحبور أن خياراته كانت محدودة إلى درجة أن الأمر لم يكن، في نهاية المطاف، سوى خيار وحيد: أن ينضم مباشرة إلى هؤلاء، على عكس ما كان يفعله أقرانه المغاربة في تلك الفترة. كان يحيل، دوما، على أميره في تلك الحركة بزهو.. ويقدم تقييماته وكأنها مقياس للصواب في السياسات العملية هنالك. كانت «أحرار الشام» بالنسبة إليه معيارا للاعتدال السلفي، وهو ما كان يعتبر أنه ينتمي إليه.. سلفي معتدل، وكان يدافع عن صفته تلك حتى وهو يلتقط صورا لنفسه وفي يده بندقية أو سكين، وبجانبه جثث عسكريين سوريين. لم يكن أشرف شابا محبا للدماء على كل حال؛ وحتى وهو يستعرض مهاراته التواصلية، فقد كان حديثه عن «الذبح» مجرد شعار. لم يقتل أشرف أي أحد، ولم يذبح أي أحد بالأحرى. ذات مرة، كان يتحدث وهو مختبئ في منزل، فيما الجيش السوري يقذفهم بالقنابل، وكان يحاول أن يقنعني بأن طلب الشهادة هو ما أتى به إلى سوريا. ومع ذلك، فإن أشرف لا يريد الموت هباء، ومن المؤكد أنه لا يرغب في أن تقتله رصاصة أو مدفع دون أن يعرف بالضبط من قتله أو دون أن يواجهه في معركة؛ كان لديه حلم: «حينما تستقر الأوضاع هنا، سأجد لنفسي فتاة لأتزوجها، ثم أعيش حياتي مثل أي سوري آخر». لم يخض أشرف معركة حقيقية في سوريا. وطيلة عام من الزمن، كان دوره أن يبعث رسائله عبر «الفايسبوك» أو «تويتر»، وقد يحدث أن يكلف بمهمة حراسة، لكنه لم يستعمل سلاحه في مهام قتالية يوما. ولأنه كان دوما مصمما على أن مستقبله أصبح في سوريا، فإنه كان يملأ نفسه ببعض الأماني: «بعد نهاية الحرب، يمكنك زيارتي، سأعيش هنا ما تبقى من عمري، وسأكون سعيدا بالعيش في دولة يحكمها أميري في أحرار الشام». شروط الحرب لم تنته الحرب سريعا كما توقع أشرف، وسرعان ما أحس بالضجر في حركة «أحرار الشام الإسلامية»، وربما وجد نفسه ضمن القلة القليلين من الغرباء غير السوريين، ولم يستطع أن يتصور نفسه مهمشا هناك. وحينما يخطط المرء هنالك لتغيير ولائه، فإنه يركن أولا إلى الصمت، ويشرع في تأمين خطة مغادرة ووصول. تعرّف أشرف إلى أشخاص جدد في جبهة النصرة عندما تأسس تحالف بينها وبين حركته وفصائل أخرى تحت يافطة «الجبهة الإسلامية»، في أوائل 2014، وأصبح أشرف عضوا في جبهة النصرة، أي «القاعدة» في طبعتها السورية. فجأة، أعلن أشرف تغيير ولائه بطريقة ناعمة. أخبرني بذلك، ثم قرر أن يترك للناس فرصة لاستيعاب ذلك: «أعطيهم الوقت الضروري لفهم تقلبات الجهاد هنا، ولكن مادمت بعيدا عن داعش، فإن الناس سيتفهمون وضعي». كان من الصعب تفسير هذا التحول من الناحية العقائدية؛ لكنه أصر على القول بأن تنفيذ المشروع السلفي يحتاج إلى قوة ضاربة، وهو لم يجده عند «أحرار الشام». وبالنسبة إليه، فقد كان الأهم هو مواجهة «داعش»: «بايع تيارٌ في الجبهة الإسلامية جبهةَ النصرة. إننا على وعي بأن أي مواجهة ضد «داعش» لا يمكن أن تنجح بدون «النصرة». هذه رأس حربة في القتال ضدهم، ويجب أن نقويها». كان أشرف يتحدث، دوما، عن «داعش» بنوع من السخرية، وكان يصرح بها وكأنها نتائج بديهية لعملية تصفية أرائه: «هل تعرف كم يقبض أفراد داعش؟ من 400 إلى 1000 دولار في الشهر. أضف إليها أنهم يمنحونك سيارة، وحتى زوجة إذا أردت ذلك»؛ لكن، دوما، كانت تتملكه رغبة في الاستهزاء حينما يتحدث عن «الدولة» كدولة: «يقولون إن لديهم منشآت عامة ودوائر حكومية.. إنهم يضحكونني كثيرا، لأني لا أعرف عن أي بلد يتحدثون بالضبط، لأنهم لا يملكون أي «دولة» في سوريا غير‘‘دولتهم''». وحتى بعض الاستغراقات النظرية عنده كانت توحي بأن هذا الشاب قد جعل من الحرب على «داعش» قضية مقدسة: «هل تعلم أنهم يكفرونني. لو أمسكوا بي سيقتلونني لا محالة. إنني بالنسبة إليهم مرتد يجب قطع عنقه.. هذه هي الحقيقة المرة: لم يعد من شغل عند «داعش» سوى قتل المجاهدين. انظر إلى ما ينشرونه من صور على «تويتر».. إنهم يتباهون بذبح مجاهدينا في جبهة النصرة». ولأن أشرف كان يعرف أن أي مواجهة مباشرة مع أقرانه المغاربة في داعش لن تنتهي لصالحه، فقد قرر أن يخوض معركته على طريقته، أي أن يقطع دابرهم دون أن يصيبه مكروه. كان الهدف واضحا عنده: ضرب القواعد الخلفية ل«داعش» في المغرب. كان يريد بلا شك أن يقوض قدرة الاستقطاب عند «داعش»، وقد كان يسأل دوما عمن هاجر من المملكة نحو سوريا ولصالح أي تنظيم. وقد غالبته مشاعر الفرح حينما علم بأن السلطات المغربية أوصدت الأبواب في وجه من يفكر بالرحيل نحو سوريا: «إنهم، في الغالب، يتوجهون إلى «داعش»، ومنعهم بصفة نهائية من السفر ضرب موفق لقدرة التنظيم الهائلة على الاستقطاب. يمكننا أن نحس بالارتياح من هذا الجانب». وفي إحدى المرات، سرت لديه بعض الشكوك بشأن قدرة السلطات على وقف الاستقطاب؛ فهو يفكر بما هو أبعد: «هل تعرف أن «داعش» أكبر من مجرد تذكرة سفر إلى سوريا.. إن الموالين لها يتزايدون بشكل رهيب في شمال المملكة، ويجب أن نفعل شيئا إزاء ذلك. ربما عليّ أن أكتب مقالة أوضح فيها لشباب المغرب حقيقة هؤلاء». لم يكتب أشرف جويد مقالته ضد «داعش»، بل توارى إلى الخلف قليلا، لنحو شهر تقريبا، ثم خرج بإعلان مدوٍّ: «أنا مع الدولة الإسلامية في العراق والشام». وكم كان هذا الإعلان مثيرا للدهشة، وهو لم يخفِ شيئا حينما سُئل: «لم يعد الوضع محتملا في جبهة النصرة. لقد تحولوا إلى جماعة شبيهة بأحرار الشام». إن المهاجرين لا يعثرون على موطئ قدم بينهم، ونحن لم نعد نشعر بأننا موضع ترحيب بينهم، فهم ينظرون إلينا كغرباء، وحتى وإن كانوا لا يخططون للتخلص منا، إلا أني أحس بأنهم سيفعلون ذلك في وقت ما، وربما كان وقتا قريبا». هل يسعون إلى القضاء على الغرباء داخل تلك التنظيمات؟ عثر أشرف لدى «داعش» على شيء يفتقر إليه: السلطة والمكانة. إن تنظيما مثل «الدولة»، مؤسسا بشكل رئيس على أكتاف الغرباء، يستطيع أن يجعل من نفسه مصدر جاذبية لكل «مجاهد» لا يشعر بالانتماء إلى التنظيمات المسلحة الأخرى فوق الأراضي السورية. «في الدولة، لا أحد يحس بالغربة، ولا بأي نقص.. إننا سواسية كأسنان المشط، وهذا ما يهمني في نهاية المطاف». عندما أنهى إعلان ولائه التام لداعش، خاطبني ببساطة: «وما أخبار أبي حفص؟». شاب محاصر بثقل احلام الجهاد لم يفكر أشرف جويد كثيرا في العودة إلى المغرب، مثلما فعل الكثيرون غيره، وهم حاليا وراء القضبان؛ لكنه كان يسأل عن الجوانب المرتبطة بعودة أيّ جهادي. وربما فكر أشرف جويد، أحيانا، في العودة؛ لكنه سرعان ما يرمي الفكرة خارج عقله. سأل، ذات مرة، عن عدد السنوات التي يمكن أن يقضيها في السجن إن عاد؛ لكنه سرعان ما أعلن مستدركا: «لن أعود أبدا. إن عودتي ستكون خيانة للمستضعفين في سوريا. يجب أن يحس من عاد بالخزي، لأن ذلك جبن». لم يكن أشرف يتصف بحدة أولئك الذين يشبهونه، ممن يضعون ولاءهم الجهادي قبل أي علاقة صداقة، وما كان يبحث عنه في أي علاقة يتلخص في شيء واحد: أن تكون متفقا معه على أن «داعش» خطر داهم وعام. وكان يحلو له أن ينظر إلى نفسه كمقاتل مختلف: «نحن نعمل من وراء المكاتب لا في ساحات المعارك»، وحتى بعد إعلان ولائه ل«داعش»، فإن أشرف متمسك بالعمل من وراء مكتبه وحاسوبه، حيث يدافع عن أعمال الذبح.