فجأة صار اسمه على كل لسان، هو الذي لا يهتم كثيرا بملف صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية.. والسبب فوز لم يكن يتوقعه بأكبر جائزة أدبية في العالم.. إنه باتريك موديانو الذي وصفه الأمين الدائم للأكاديمية السويدية ب«مارسيل بروست زماننا» لم يكن اسمه ضمن المرشحين الكبار لنيل هذه الجائزة التي تعني الكثير بالنسبة إلى المهتمين والمتتبعين لأنها تفتح لكل من ظفر بها أبواب النعيم المادي، وتضمن لهم نوعا من الخلود على قوائمها، ولم يكن يجرؤ أحد على المراهنة عليه وسط أسماء ملأت الفضاء الأدبي العالمي مثل الياباني هاروكي موراكمي، أو الأمريكي فيليب روث، أو حتى الإيطالي أمبرتو إيكو. ولكن أعضاء الأكاديمية السويدية فضلوا أن يكرموا الروائي الفرنسي باتريك موديانو، ومن خلاله تكريم «فن استرجاع الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر استعصاء على الفهم». وذهب الأمين الدائم للأكاديمية، بيتر إنغولند إلى حد وصفه في تصريح للتلفزة السويدية، بأنه «مارسيل بروست زماننا». بين عالمين لم يكن باتريك موديانو نفسه يتوقع الفوز بنوبل هذه السنة بتاتا حتى إن إنغولند، لم يفلح في الاتصال به لإبلاغه بقرار الأكاديمية قبل الكشف عنه للعالم. وحتى بعد أن علم بالخبر من طرف دار النشر «غاليمار»، التي ظل أمينا لها منذ أن نشرت له أول أعماله في نهاية الستينيات، فإنه اعتبر الحدث «غريبا» (bizarre حسب تعبيره)، مضيفا خلال تصريح ندوة صحافية بباريس «إن الأمر يبدو غير واقعي أن أكون في مواجهة أناس كانوا مثار إعجابي» في إشارة إلى عدد من الكتاب الذين تأثر بهم والذين سبق لهم الفوز بالجائزة مثل ألبير كامو… ويعد موديانو، وهو من أبرز كتاب الرواية الفرنسية في الخمسين سنة الأخيرة، وإن لم يكن أكثرهم تداولا في وسائل الإعلام، الفرنسي ال15 الذي يحظى بجائز نوبل للآداب منذ إنشائها في بداية القرن الماضي. وتسلط كل أعماله الروائية، التي تبلغ حوالي 30 رواية، الضوء على حقبة الحرب العالمية الثانية وفترتي الخمسينيات والستينيات بالخصوص، وتدور أحداثها أساسا في مدينة باريس، التي يرسم معالمها ودروبها السرية بدقة متناهية. ويحاول من خلال النص الروائي ككل إبراز ثقل مآسي تلك الحرب على المدينة وسكانها من خلال تتبع مسارات حيوات أناس عاديين بشكل جعلها تبدو بسيطة وملحمية في الآن ذاته.. حيوات أناس مفقودين، هاربين، بلا هويات إدارية. وغالبا ما تكون الشخصيات الرئيسية في أعماله السردية في بحث دائم عن هويتهم وتتأرجح دوما بين عالمين.. بين منطقتين: واحدة تبدو واضحة المعالم وأخرى ضبابية منفلتة. ويتناول الكاتب مواضيعها بأسلوب يصفه النقاد ب»الرصين والواضح»، ما جعله من الكتاب الذين يحظون بالكثير من الاحترام من طرف جمهور القراء الفرنسيين وغير الفرنسيين (أعماله مترجمة إلى حوالي 36 لغة)، دون أن يشغل نفسه بالبهرجة الإعلامية. ومن خلال انكبابه على باريس الستينيات من القرن الماضي، خصص موديانو روايته ما قبل الأخيرة، التي صدرت في شتنبر 2012 تحت عنوان «عشب الليالي» (l'herbe des nuits)، لقضية المهدي بن بركة وإن لم يأت على ذكر المعارض المغربي بالاسم، ولكن جزءا مهما من أحداث الرواية، التي تدور في سنة 1965، تصور مثلا شخصية «جورج ب» وهو مجرم يذكر كثيرا المتتبع لقضية بن بركة بالمجرم جورج بوشيش، المتورط في اختطافه واختفائه إلى يومنا هذا. كما تأتي على ذكر شخصية أخرى غامضة لها علاقات بالسفارة المغربية. طوق نجاة لقد كانت الكتابة على ما يبدو طوق نجاة أنقذ الشاب باتريك الذي عاش هو نفسه حياة كلها تيه وحرمان، خاصة خلال فترتي الطفولة والمراهقة رغم أن والده كان غنيا. فقد عاش منذ ولادته في 30 يوليوز سنة 1945 ببلدة «بولون- بيونكور» بالضاحية الغربية لباريس، حياة من الحرمان. فقد تخلى عنه والده صغيرا ليهتم أكثر بنشاطاته التي لم تكن في غالب الأحيان تحترم القوانين، وحتى عندما كان يريد لقاءه، كان ذلك يجري بالخصوص في صالونات الفنادق الباريسية، وهو الأمر الذي لم يعد المراهق باتريك يتحمله، فقرر عندما بلغ ال17 سنة أن يتوقف عن الذهاب إلى تلك المواعيد المريبة والسريعة، ما جعل والده، في المقابل، يرفض رؤيته بالمرة. وقد عاد إلى هذه الفترة من حياته وعلاقاته المتوترة مع والده في روايته «pedigree» الصادرة في سنة 2005. أما والدته، وهي من أصول بلجيكية، فقد أًصبحت ممثلة وهو ما يزال صغيرا، وكانت تتركه في رعاية مربية أو عند جديه لتتفرغ لجولات فرقتها في المدن الفرنسية، في فترة من حياته ستتكفل به إحدى صديقات والدته التي تبين أنها متورطة في أنشطة إجرامية وسينتهي بها المطاف وراء القضبان. ثم بعد ذلك سيتقلب في الملاجئ، إذ سيسقط في مستنقع المخدرات وتجارة الكتب المسروقة، ولم ينقذه من براثن هذه الحياة سوى لقاءه مع الكاتب والمسرحي ريموند كينو، الذي ساعده على نشر روايته الأولى «ساحة النجمة» (place de l'etoile) سنة 1968، وقد أثار بها انتباه النقاد وحاز بها جائزتين أدبيتين، ثم توالت أعماله الروائية بشكل منتظم، ومعها كرس اسمه ككاتب رصين وعميق ولم يتأخر النجاح، إذ حصل في سنة 19732 على جائزة الأكاديمية الفرنسية على روايته «les boulevards de ceinture»، ثم بعدها بسنوات قليلة، أي في سنة 1978، نال الغونكور (أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية) بفضل روايته «rue des boutiques obscures». وتوصلت أعماله التي كانت دائما تحظى باستقبال حماسي من طرف النقاد والقراء على السواء، إلى أن فاجأه ناشره صباح أمس بفوزه ب»نوبل» على مجمل إنتاجه الأدبي وذلك بعد أيام فقط، من إصداره لرواية جديدة تحمل عنوان «حتى لا تتيه في الحي» (pour que tu ne te perdes pas dans le quartier)، وهي رواية أخرى تحكي عن السعي للخروج من التيه من خلال شخصيتها الرئيسية «درانغان» الذي فقد المفكرة التي وضع فيها الكثير من الأسماء والعناوين ليتصل به أحدهم ليبلغه أنه عثر عليها، ويتبين أن هذا الشخص محقق يجمع معلومات حول شخص آخر ورد اسمه في تلك المفكرة، لينخرط الجميع رفقة القارئ في رحلة شيقة من الأحداث.