الإصلاحات تتفاقم، والدعوات إلى النهوض بالمدرسة المغربية تتوالى وتتلاطم، كل حكومة تأتي، إلا وتلعن أختها رامية باللائمة على سابقتها، وكل وزير تعليم يؤتى به، يعتبر نفسه هو السوبرمان المخلص، يغمض عينيه عن سائر التجارب والقرارات السابقة، ويقذف بسائر المذكرات والمراسيم إلى البقالين المتواجدين قريبا من وزارته، أو من نيابات أكاديمياته ليلفوا سلعهم وبضائعهم فيها. ويبدأ الملاك الجديد تجربته العلمية الجديدة في ميدان تحرم التجارب فيه دوليا، فيدعو الناس ليفسحوا المجال لتجربته الرائدة لتأخذ مجراها، وترصد له الميزانيات، فيحمل معه من أطر حزبه النجارين والمقاولين والمستثمرين وكذا المحامين وشبيبة الحزب، فيعين كل في مكانه وموقعه كل بحسب موقعه في الحزب ومكانته القديمة وسطوته وسلطته، وفي ظروف غامضة تتوارد المذكرات، والتوصيات، والتعيينات، والمساطر. ودون أن يشعر السوبرمان المخلص بالذنب أو المعاناة ودون أن يستغفر وحتى أن يعتذر، يختفي دون حياء بعد أن انتهت ولايته، في انتظار تنصيبه وزيرا على وزارة أخرى في حكومة وطنية أخرى كذلك وبتجارب أخرى، من بعيد رجل التعليم أو سيزيف الوضع ينظر في تأمل هادئ إلى بلاهة القرارات وغباء الإصلاح، منتظرا في نفس الوقت ردود فعل الضوء المعتم النقابات، التي تزعم لنفسها القيادة، وتحمل أمانة الدفاع عن المدرسة والهيئة للتعليمية في نهج نضالي يثير تقزز الشيطان نفسه، ولأنها كشاهد الزور المستعد أن يشهد بأي شيء مع أي احد، فإنها فور إعلانها النفير العام لإضراب ومعركة نضالية، تختار لها من معجز اللغة معجزات من الأسامي والشعارات، حتى تسجل هروبا مخجلا ممتلئا بالعار والخزي، بعد تنازلات لا نعرف ما هي، لتنام قريرة العين وهنيئة الدواخل، ولتكرر مهازلها النضالية أمام عيني رجل التعليم الجاحظتين اللتين كلهما عجب واستغراب، لتصبح أمامه وأمام وزراء التعليم مع طول أيام نضالها المخصي، فارسا دونما جواد ولا سلاح، إلا سلاح البيانات العتيدة، والشعارات الطويلة والتهديدات التي ما قتلت ذبابة. ولتدخل المدرسة المغربية في مسلسل طويل كما المسلسلات التركية والمكسيكية التي أدخلت في نفقها المظلم معظم الأسر المغربية، مسلسل الحوارات الاجتماعية الذي أمس مناسبات طريفة لتنعم بملذات الحياة الدنيا، ومناسبات ظريفة للاستمتاع بما لذ طاب وللوك ألوان المزاح الثقيل، الذي لا طعم له، والذي قد يكون رجل للتعليم وقصصه التي لا تنتهي بطلا لنكاته. وفي غمرة كل هذا سيصاب رجل التعليم بانهيار عصبي يفقد معه كل أمل وحلم في إصلاح وضعه، وإصلاح مجال عمله، ليصبح المسكين الشماعة التي تعلق بها أخطاء الجميع، ولا يملك حق أن يتهم أحدا، ولا حق أن يضرب أو يصرخ أمام سياسة وزير فاشل، فالوقوف أمام الوزارة احتجاجا على قرار أسود يستدعي الصبر على عصي لا ترحم تنتظر ظهره وأطرافه، وعند إضرابه ليوم أو يومين اعتراضا على احد عروض مهزلة الإصلاح هناك تضيق على الأرزاق ينتظر مرتبه الضيق جدا ولكل فعل رد فعل من المحزن مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه. لقد فقد رجل التعليم الإحساس بكل لذة في مهنته، فلم يعد لديه شيء ممتع فيها، الكل يجتهد في جلد ظهره، حكومات فاشلة في كل شيء، تتهمه وحده دون غيره بالفشل في إنزال نظرياتها التي استقدمت لأجلها كفاءات أوربية متمرسة جدا ومتميزة جدا ! وأسر تنازلت عن كل أدوارها في تربية الأبناء والحفدة، فهي تحمل مآسي ومصائر أبنائها لرجل التعليم، الذي لا يكاد يدخل قسمه حتى يخرج منه بسبب عطله الطويلة جدا بحسبهم، والتي هي الأقصر بين الأنظمة التعليمية للدولة القريبة منه جميعها. تتوالي الإصلاحات واجترار الخطابات عن إصلاح المدرسة، وفي مقابلها تقف بشموخ خيانة النقابات، جعل رجل التعليم غير مهتم بما يجري حوله، إذ يرى كل شيء أمامه عديم اللون والطعم لا جدوى منه ليغرق وحيدا في حزنه وكآبته، فلا احد ينصت له ولا احد يترك له الفرصة كي يتحدث، لا باعتباره أدرى الناس بمشاكل المدرسة المغربية ولا لكونه تجاوزا مثقف عضوي يهمه أمر البلد ومصيره، فلا الحكومات ولا الناس تضمن له حق إبداء الرأي، تاركا الكل ينبح ويعوي ليصارع وحده الظواهر الأخلاقية والمجتمعية التي تتوارد عليه. لقد فشلت الحكومات في كل شيء يخض مجال التعليم لكنها نجحت في شيء واحد هو تطويع رجل التعليم، فبعد أن كان العمود الفقري للأحزاب الوطنية وبعد أن كان يخرج من قسمه التلاميذ والطلبة المكونين معرفيا كما سياسيا أمسى كما نمر أحد قصص زكريا تامر، النمر الذي صار قطة تأكل الحشائش، والذي يقول له مروضه عقب كل امتناع عن فعل ما يريد " اسكت اسكت، تقليدك مازال فاشلا، سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط وغدا سامتحنك فإذا نجحت أكلت، أما إذا لم تنجح فلن تأكل وسأعذبك أكثر" وفي صباح الغد يقول النمر المسكين:" ها أنا قد قلدت مواء القطط "، كي يهبه ما وعده من قطع اللحم الكبيرة، لكن المروض يقطب جبينه، مظهرا عدم الرضا بما وصل إليه ليطلب منه بكل سادية طلبا آخر قائلا: "لا لا قلد لي نهيق الحمار هذه المرة" وهذا لعمر مصير المدرسة المغربية، وهذا ما تريده الوزارات المتعاقبة من الأستاذ أن يصير إليه وأن يصبح عليه ولو كانت بيدهم عصى هاري بوتر السحرية لمسخونا بالتأكيد إلى خنفساء كافكا أو إلى أحد شخصيات مدينة ميكي ماوس. لذا ووسط ثقافة ألفت تلفيق التهم وإلصاقها بكائن ما: مادي أو حتى روح شريرة، وبدل أن توضع الحكومات المتعاقبة في قفص الاتهام، وبدل أن يشار لها حتى بأنها هي سبب والعلة الأولى بتعبير أرسطو لفساد التعلم، الكل حكومة وشعبا يدعي بأنه وحده رجل التعليم الرجل المناسب لتأدية مهمة ودور المتهم الخطير والمجرم الذي يستحق العقاب، ويستحق أن يطارد بالنكت والاتهامات، حتى أمسى المسكين يخاف أن يصرح بمهنته أمام عامة الشعب كي لا يتعرض لسخريتهم ونكاتهم منه ومن الهيئة التي ينتمي لها أو حتى لا يضع نفسه موضعا لا يرضاه بان يصير موضوع همسهم ولمزهم في حضرته كما في غيابه. إن كل القرارات التي منها قرار بلمختار الأخير، والتي تقول أنها لا تود إلا إصلاحا ما استطاعت، هي في الحقيقة تود ترويض رجل التعليم، فهي تريده بسيطا في رؤاه، وأقل طموحا بالمجد وبالغد، إنسانا ببعد واحد، دون أحلام ولا حتى أوهام ولا خيالات يجب أن يحيا ويعيش، وبدون طاقة زائدة الا من الزائدة الدودية، كائنا طيعا مطواعا كما قطط البيوت الأرستقراطية، ولما لا متأخرا عقليا أو حتى أبلها كما الأمير ميشكين، أبله دستوفسكي، الذي يمشي في شوارع بطرسبورغ الخالية، مدفوعا بحمى ونوبة صرع وشيكة، لينهي حياته مصابا في دماغه، وسجينا لمستشفى الأمراض العقلية، بعد لن قضى عمره متسائلا لماذا عليه أن يحب الآخرين أكثر من نفسه. نعم رغم كل شيء، رغم السكاكين التي تشحذ لرجل التعليم، ورغم الاتهامات الحاقدة عليه، ورغم المذكرات الوزارية العقابية له، ورغم حفنة النكات المتداولة عنه، ورغم المشانق المقامة له في الاجتماعات الوزارية، ورغم الحوارات التي يكون بطلها المأساوي والتراجيدي أمام الحوانيت وفي المقاهي وسيارات الأجرة، ينتصب رجل التعليم في قسمه أمام تلاميذ ينتظر بعضهم الفرصة فقط للخروج عند "با عروب" لتدخين "جوانات" تباع نهارا جهارا أمام أعين الجميع، ليؤدي دور الملهم الروحي والمحلل النفسي والمصلح والفقيه و الواعظ وليتكلم نيابة عن الضمير الذي قتلته المهرجانات الغنائية الماجنة والمسلسلات التليفزيونية التافهة، عله يطيب ويطبب روح تلاميذه، ويعيد لها نظارتها الأولى، ووحده بإمكاناته البسيطة يمد تلاميذ من مكتبته الخاصة عوض مكتبة المؤسسة المغلقة والتي دونما قيم عليها ولا كتب، فيحرضهم على القراءة والمطالعة، ويحدثهم عن جون جاك روسو وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعن أعمى المعرة وعن كانط ونوفاليس وهلدرلين والشابي. في الوقت الذي يملأ الإعلام العمومي أمخاخهم بالحديث عن مغنين ومغنيات امتلأت بهم المهرجانات، فأصبح معهم "النغم" مشروعا يضاد يضطهد مشاريع القراءة والقلم الذي يبني مجدها المدرس في صالات درس غير مبنية الجوانب ومكسورة النوافذ. إن رجل التعليم بإمكاناته البسيطة (طباشير ، ممسحة، سبورة ومختبرات فارغة) يقاتل لوحده في أقسام دون أوكسجين كاف (إذا قسمت خمسين تلميذ على الأمتار المكعبة للقسم، فالقسم يمكن اعتباره بحسب منظمة الصحة العالمية مكانا متسما لا شك في ذلك( يقاتل ويحارب الجهل، الذي تنشره وسائل الإعلام الحكومي ببهرجتها والمستفيدة من آخر الأجهزة التلفزية ومن أخر أدوات الإخراج وهندسة الصوت، لتبني سياستها المنبنية على التأثير ولتمحو ما بنيناه من مناهج التفكير، ولتلامس اللاشعور واللاوعي في مقابل ما رسخناه من أدوات للعقل والوعي، ولتهبنا صخبا مجندا وفكرا مشوشا، عوض ما نهبه من فكر جدي، فتصبح مهمتنا هي خلق الثقافة من العدم في حين تصبح مهمة أجهزت الحكومات الإعلامية هي محاصرة هذه الثقافة بإشاعة روح المرح والعري في البيت والشارع، لذا فلولا مجهودات رجل التعليم صانع ثروة البلاد اللامادية بامكاناته البسيطة التي يوفر بعضها من جيبه لكانت الطامة ولطم الوادي على القرى.