نعم، كان الحمار يعرف الطريق أحسن مني، ولولاه لتهت، وربما إلى الأبد، في هذه المنطقة الوعرة المقفرة من الأطلس الصغير. في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، أخذنا الوالد رحمه الله كما العادة إلى «لبلاد» لقضاء جزء من العطلة الصيفية، وبعد وصولنا بأيام رافقت ابن عمي إلى سوق أسبوعي لا يبعد كثيرا عن البيت، وأثناء العودة أرسلني مع حمار العائلة لأنه كان سيتأخر لقضاء أغراض أخرى لم أعد أتذكرها. قفزت بخفة على ظهر الدابة وأمسكت «اللجام» وقلت للحمار بلهجة السيد الآمر «إروا»، فانصاع وتحرك بخطى وئيدة عبر مسلك وعر، ثم سرنا في منبسط وسط حقول جرداء تختلط تربتها الحمراء بكثير من الأحجار يغلب عليها لون رمادي داكن تتخله بعض الأعشاب هنا وهناك. ثم صعدنا ثانية جبلا ولما بلغنا قمته، توقف الحمار فجأة رافضا أن يسير في الاتجاه الذي أود أخذه. «إروا.. إروا» لا فائدة. نزلت وأنا غاضب .. كيف يجرؤ «أغيول» هذا، الذي كنت أعتبره إلى ذلك اليوم كائنا غبيا، أن يعصى لي أمر القادم من «لمدينة» وأي مدينة .. الدار لبيضا ! وما زاد في غضبي أنه كان هادئا ويكتفي بالنظر إلي نظرات أحسستها ساخرة. بعد محاولات عديدة يئست ورحت أشتمه، وتركته يأخذ الطريق التي اختار وسرت وراءه خائفا حائرا راجيا أن نصادف أحدا في هذه القفار الممتدة... وبعد مسافة بدت طويلة ومخيفة تعرفت على المشهد الذي يلوح هناك في الأسفل، فأسرعت وقفزت على ظهر حماري مرة ثانية وهو يسير بخطى لامبالية، فقط، يحذر ألا تنزلق قوائمه في هذا المسلك الوعر المؤدي إلى المنبسط، ولم يتوقف سوى ونحن أمام الباب الخشبي المهترئ للبيت الكبير. نعم، كان الحمار يعرف الطريق أحسن مني، ولولاه لتهت، وربما إلى الأبد، في هذه المنطقة الوعرة المقفرة من الأطلس الصغير. أتذكر أنني عانقت هذا الحمار قبل أن أعرف أن نيتشه عانق ذلك الحصان الذي كان يتعرض للأذى وسط مدينة ميلانو.. نعم، عانقت هذا الحمار بتلقائية مراهق أحس أنه نجا من السقوط في هوة التيه السحيقة.. أو ربما عانقته لأعتذر له عن الخطايا التي لا نكف عن ارتكابها في حقه بشكل واع أو لا واع.. أو ربما لأني أحسست أن الكثير من بشرنا يرشحون بتلك النعوت التي يلصقون بهذا المخلوق. وكم أود معانقة تلك الحمير الستة التي استغلت بسذاجة، حتى لا أقول شيئا آخر، في مسيرة حميد شباط الأحد الماضي، وأبلل جلدها بدموعي- كما بلل نيتشه ذلك الحصان الإيطالي- حسرة على الضمور والهزال الذي أصاب الخيال السياسي في بلادي، في وقت غدت فيها القدرة على اجتراح حلول مبتكرة هي مفتاح التقدم نحو الأفضل في ظل التعقد المزايد والتشابك المطرد للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية. إن توظيف ورثة حزب علال الفاسي للحمار في صورة قدحية، تنم عن جهل مطبق، أو بالأحرى عن تجاهل كبير، بمميزات هذا المخلوق الذي يتحلى ب»خصال» (نعم خصال)، لا نجدها عند الكثير من ممتهني السياسة: فكم عدد سياسيينا الذين يتمتعون باستقامة الحمار، وتفاني الحمار في أداء مهامه، بل وفي أمانته، فهل سمع أحد منكم قط أن حمارا خان أمانة؟ وعلى عكس العديد من السياسيين في بلادي، فهذا المخلوق اللامبالي، لا يركبه الوهم قط، بل للأسف «لا يركبه سوى الواهمين» على حد قول «حمار» توفيق الحكيم. وللحمار الشجاعة على الاعتراض، والاعتراض السلمي، عندما يطلب منه القيام بما يفوق طاقته أو يراه لا يتلاءم مع ما «يؤمن به». فقط يتوقف عن أداء عمله ويحني رأسه وينخرط في صمت عميق ولا يتحرك حتى تنقشع مسببات اعتراضه. فهو ليس مثل بعض السياسيين الذين لم يعودوا يكتفون حتى بأضعف الإيمان- أي الصمت- لما تعوزه شجاعة اتخاذ الموقف الصحيح، وبدل ذلك ينخرطون في الرقص على الحبال، مثل بهلوان مبتدئ، لتبرير سجن صحافي ومحاكمته بفصول قانون الإرهاب. ولكن، لا عليك أيها الحمار، فقد علمتك تجربة العيش بين البشر تلك الحكمة العميقة التي جعلتك تلوذ في أغلب الأحيان بصمتك وتكتفي بنظراتك الساخرة. فأنت، تعلم جيدا، عكس كثير من السياسيين في بلادي، ما قاله «بنيامين»، ذلك الحمار العجوز الذي كان يمثل نوعا ما ضمير الرواية الشهيرة «مزرعة الحيوانات» لصاحبها البريطاني جورج أورويل. فلما سئل «بنيامين»، الذي علمته الحياة خفايا الأمور، عن رأيه في الوضع بالمزرعة بعد سيطرة الحيوانات قال، مخاطبا الحيوانات الأخرى القصيرة العمر والنظر، جملته الملغزة والصالحة لكل زمان ومكان «الحمير تعيش طويلا.. ولم ير أحد منكم قط حمارا ميتا»، في إشارة منه إلى أن ما حدث تحوّلٌ طارئ وزائل قد مرت من قبله فقاعات وفقاعات سرعان ما تلاشت.