* باحث في التاريخ ما هي أبرز المحطات التي كانت المساهمة اليهودية فيها مؤثرة في تاريخ المغرب؟ تميزت المساهمة اليهودية في مسار التاريخ المغربي بطابعها الشمولي للمشترك المعاش في المغرب عبر كل مراحله. لن أتحدث عن محطات، إذ في المجال الثقافي يتم الحديث عن التراكمات. فبداية هناك ما يسمى بالعصر الذهبي: (ما بين القرن 10م و12م)، برزت فيه العديد من الشخصيات أمثال: يهودا بن قريش التاهرتي، دوناس بن لبراط الذي وضع أسس النحو العبري، دافييد بن أبراهام الفاسي مؤلف «جامع الألفاظ وهو قاموس عربي-عبري، وإسحاق الفاسي مؤلف تلمود يهودا يوسف بن عقنين... وزكريا بن يهودا الأغماتي (شرح فصول التلمود)، وإسحاق الفاسي، وأخيرا ابن ميمون... كل هؤلاء برزوا في فترة لا تتجاوز القرنين، وأغلبهم كتب باللغة العربية... المرحلة اللاحقة، خلال عمليات الطرد والتهجير الذي تعرض له يهود إيبيريا نهاية القرن 15م، استقبل المغرب الكثير من الربيين والأحبار، ما كان له تأثير في الحياة الدينية، التي أصبحت أكثر انفتاحا، وأعطتنا مدرسة فقهية مهمة تبنت أفكار هااروش، آنذاك... لقد أدخل اليهود لغة جديدة إلى اللهجات المغربية وهي الحكايتي (خليط من القشتالي والعبري) وكانت منتشرة شمال المغرب... حملوا صنائع غنائية وطورها سواء غنائيا ويسمى «البيطان»، أو الفني المسجوع «الميليصاه»، إضافة إلى الأشعار القبالية (الصوفية)... كتبت عائلة بنصور خلال القرن 17م نصوصا شعرية في كل المواضيع سواء بالعبرية أو العربية. بدون شك من الحرف اللصيقة باليهود هناك سك النقود والصيرفة، الصياغة والخياطة بخيوط الذهب... وهي حرف ضرورية لاقتصاد الدولة. هي محطات كانت مؤثرة في الحياة الداخلية للطوائف اليهودية لكنها أثرت في كل المجتمع المغربي، وهو ما أسميه العيش المشترك.
لماذا في رأيكم كان السلاطين المغاربة يستعينون باليهود؟ المال والسلطة لا دين لهما، يتكاملان ولا ينفصلان... أعطيك الجواب الأبسط والأكثر اختصارا «لأنهم مغاربة»، ولا فضل لأحد عليهم في ذلك. لكن لماذا التركيز على علاقاتهم بالسلاطين، ولا نتساءل عن شراكاتهم في مختلف مستويات الاقتصاد، وفي كل المراحل التاريخية مع باقي المغاربة، فطيلة التاريخ وهم في حالة عيش مشترك مع المغاربة، يتبادلون «الملح والطعام» بشكل يومي، وكثير من اليهوديات كن مرضعات لأبناء المسلمين... وهنا أريد العودة إلى الفتاوى التي صدرت من طرف كبار فقهاء المغرب في «المعيار» للونشريسي، وهو كتاب يحظى بتقدير كبير جدا من طرف العلماء... سنجد فيه أن اليهود كانوا يتقاضون عند القضاة المسلمين، أنهم كانوا يتشبهون بالمسلمين في اللباس، ويسكنون في الأزقة نفسها ويشربون الماء نفسه، يبيعون ويشترون في الأسواق لعامة الناس دون ميز. بل في الجزء السابع منه سنجد فتوى لا يمكن تخيلها حول «يهودي حبس على عقبه وجعل المرجع لفقراء المسلمين»، أي إذا انقطع عقبه يحوز مداخيلها فقراء المسلمين... هذا ما نجده في كتب العلماء وهي كلها نماذج موثقة، لن أذكر إلا بهذا الآن.
لكن يبقى دائما السؤال عن علاقتهم بالبلاط؟ عودة إلى سؤالكم: في العمق وبعيدا عن الأحكام المسبقة، المسألة ترتبط بمصلحة الدولة. لن أتحدث عن أزولاي وبيرديكو «باش ماتقول ليا كنقطر الشمع» لكنهما عائلتين مخزنيتين منذ أجيال، إضافة إلى عائلة بوطبول وبن سوسا، مثلها مثل باقي العائلات المسلمة، إذن المسألة ليست مثيرة للاستغراب. الأمر يختلف من فترة لأخرى، ففي عهد المرينيين وصل اليهود إلى أعلى المراتب السياسية، وأعني عائلة بني وقاصة التي امتهنت الحجابة، ويبدو لي أن الأمر مرتبط بلحظة بداية بذخ الدولة -حسب تعبير ابن خلدون- احتاج فيها المخزن المريني إلى توظيف كثير من النخب، ومن بينها اليهود... في نهاية الدولة المرينية، ولاعتبارات مرتبطة برغبة آخر سلاطينها في الحد من الوصاية الوطاسية على سلطته، عين ابن بطس اليهودي في مرتبة وزير... استغل الوطاسيون بعد حيازتهم السلطة اليهود في القيام بأعمال دبلوماسية وتجارية لفائدة الدولة، فقد كانت الحاجة ماسة إلى الحصول على الأسلحة لمجابهة الاستعمار البرتغالي للمغرب... منحهم السعديون عقودا لاحتكار تصنيع السكر وبيعه لفائدة الدولة... في العصر العلوي الأول كانوا سفراء خاصة في بعض الدول كهولندا وإنجلترا... يبدو أن الأمر مرتبط بعاملين: - العامل الأول هو وجود قاعدة بشرية يهودية في كل العالم، وهو ما قد يسهل مهام القيام بأدوارهم الدبلوماسية، من خلال استغلال الرابطة الدينية. - العامل الثاني هو قدرة بعضهم على التواصل بشكل جيد، والذي يصل إلى درجة «الشطارة». في كثير من مهامهم التي أدوها بإتقان كبير كان هناك ما نسميه ب«la raisond'état». قد يستغل بعضهم موقعه لأغراض أخرى، هذا حقيقي، ولكن هل هم الوحيدون في هذا الأمر؟ إذن، المسألة فيها كثير من النسبية، والارتباط بالسلاطين كان يهم نخبا محدودة من اليهود، بينما بقيتهم هي رعية السلطان وتحت حمايته، وهو ما كان واضحا في تصريحات محمد الخامس عقب صدور قوانين فيشي العنصرية. لكن دعني أسأل أنا بدوري: لماذا اختار شمعون ليفي، سيون أسيدون، أبراهام السرفاتي... الجانب الآخر؟
كخلاصة، كيف ترى دور اليهود في المغرب على مر العصور؟ تاريخ اليهود بالمغرب مرتبط بسياقاته، ودون ذلك سنسقط في اختزالية مميتة للفكر والاجتهاد والتعايش. وأعتقد أننا في حاجة ماسة إلى المصالحة مع تاريخنا في مجمله بعيدا على كل أحكام القيمة المسبقة التي يولدها الجهل بطبيعة الأشياء. ومن هنا أدعو إلى الاهتمام بالفكر والثقافة اليهودية بالمغرب، لما شكلته من قيمة مضافة لتاريخ بلادنا، وأن ننظر إلى هذه التجربة بحسناتها وأخطائها باعتزاز.