مما لاشك فيه أن مهنة التوثيق العدلي حافظت منذ القدم على الحقوق المالية والشخصية للمواطنين، إذ بواسطتها توثق المعاملات وتتم حماية حقوق الأفراد والجماعات بين المتقاضين عند حدوث النزاع. وهو ما دفع ملوك المغرب إلى صونها وأولوها العناية اللازمة وما انفكوا يأمرون القضاة بالقيام بواجباتهم الشرعية في ذلك، وذلك لإيمانهم العميق بأنها جزء من النظام القضائي الإسلامي، ولارتباطها الوثيق بإمارة المسلمين والسياسة الشرعية العامة للبلاد. واستنكرت الهيئة الوطنية للعدول، حسب بيان لها. ما جاء في مشروع قانون المالية 2023، المادة 8 والمتعلق بتخصيص دعم مالي عمومي لمن يرغب في اقتناء مسكن مخصص للسكن الرئيسي، الذي جعل من بين شروط الاستفادة منه إبرام عقد الوعد بالبيع وعقد البيع النهائي لدى موثق، واعتبرته حيفا و إقصاءا لا مبرر له للسيدات والسادة العدول الموثقون الذين يمارسون مهنة التوثيق منذ القدم وبقوة القانون . واعتبر هذا التوجه "ريعا تشريعا "يضرب في صميم حرية التعاقد لدى المواطن المغربي، ويتنافى مع ما جاء به دستور 2011، من مبدأ المساواة وتكافئ الفرص، بل يتناقض مع مقتضيات المادة 4 من قانون مدونة "الحقوق العينية " قانون 39.08، محاباة للفئة مهنية على حساب فئة مهنية أخرى. واعتبرت الهيئة الوطنية للعدول الموثقون أن هذا الميز ما هو إلا تناقض صارخ مع الاهتمام والاحترام الذي ظلت تلاقيه مهنة التوثيق العدلي من قبل كل ملوك الدولة العلوية الشريفة، وقد تأكد ذلك مؤخرا بتعيين ملكي للفلوج 2018 يشمل المرأة العدل الموثقة خريجة الجامعة القانونية المغربية . وإذا كان التوثيق العدلي يتميز بكون قواعده العامة والخاصة مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الفقه الإسلامي على المذهب المالكي وفق التقاليد المغربية الأصيلة، فإن التوثيق العصري على عكس من ذلك، حيث إن قواعده العامة و الخاصة مستمدة من الفكر البشري المحض وخاصة الفكر الغربي الفرنسي، ولا يعكس الأصالة المغربية في شيء، وبالتالي فقواعده تختلف كلية عن القواعد التي تحكم التوثيق العدلي من حيث المرجعية و التطبيق العملي، ويتجلى ذلك على الخصوص فيما يأتي: كونه ذا مرجعية أجنبية عموما وفرنسية خصوصا، بمعنى أن كبرى القواعد التوثيقية وأهم الضوابط القانونية الجاري بها العمل في هذا التوثيق، مستمدة في أصلها من التوثيق الفرنسي، غير أن المشرع المغربي وهو يعيد النظر في ظهير 4 مايو 1925 ويضع القواعد العامة للقانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.179 في 25من ذي الحجة 1932 22نونبر2011 ، ويسن الضوابط الكلية كما هي في القانون الفرنسي وغيره من القوانين الوضعية بصفة عامة، أبى إلا أن يصيغ هذه القواعد التوثيقية بالصبغة المغربية، ويقاربها بمسحة عربية أصيلة، وأن يحذو في ذلك حذو القواعد التوثيقية المضمنة في القانون رقم 16 .03 المتعلق بخطة العدالة، إلى درجة أن جاء قانون التوثيق كأنه نسخة من قانون خطة العدالة، لا من حيث التقسيم والتبويب، ولا من حيث المواد القانونية والعبارات والكلمات المعبر بها في صيغ هذه المواد وهنا لا بد من الوقوف والتذكير بأن السيدات والسادة العدول الموثقون، أصبحوا اليوم مقتنعين من ذي قبل بضرورة إشراكهم و الأخذ برأيهم وإنصافهم في بعض المجالات التي تعرف احتكارا واسعا من طرف بعض المهنيين، خاصة في مجال المعاملات العقارية والتي تمولها المؤسسات البنكية، وتهم الفئة الاجتماعية الهشة كالسكن الاجتماعي وعقود القرض وغيرها من المعاملات المالية الحية ، ولا يمكن بأي حال إقصاؤهم من هذا الواجب الوطني والعمل بمبدأ المساواة، إن كانت وزارة العدل حريصة على تحقيق " الأمن التوثيقي"، على الوجه المطلوب. التوثيق العدلي عامل مهم من عوامل استقرار المجتمع وفاعل له دوره في تكريس السلم والأمن الاجتماعيين، ودرء المفاسد ورد المظالم إلى أهلها، إذ بواسطة شهادات العدول ووثائقهم، تحمي الدولة والمجتمع قاطبة من الفتن والاضطرابات. وانطلاقا من هذه الأهداف والغايات التي يتوخى التوثيق العدلي تحقيقها على أرض الواقع، فإن حاجة الأفراد والمجتمع ماسة إليه في كل زمان ومكان .و أيضا لما تبث في الشريعة أن الله تعالى أمرنا بالمحافظة على الأموال ونهانا عن إضاعتها وتبذيرها فقال سبحانه : {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } سورة النساء آية 5، دل ذلك على وجوب صيانة هذه الأموال وعدم تعريضها للضياع والتبذير. فنحن اليوم لا نتحامل على مهنة التوثيق العصري ، بل نقدر ممتهنيها ونكن لهم كل الاحترام والتقدير، لكننا نقف وقفة محارب لا نصاف خطة العدالة التي طالها الاقصاء والحيف رغم المستوى القانوني و التوثيقي و الاجرائي الجيد للسيدات والسادة العدول الموثقون.