الموت هنا لا يستأذن أحدا، إذ يترصد الجميع في كل زوايا جرادة، هذه المدينة المنسية في شرق البلاد، بل يصر على أخذ الناس جماعات، «منذ خمسة عشرة يوما تقريبا فقدنا أربعة من المرضى ذهبوا، وفي حلقهم غصة نيل حقوقهم المادية»، يقول الحاج الباي محمد، قبل أن يقاطعه الحسين وهو عامل آخر من عمال مفاحم المغرب سابقا، تعرض لحوادث مهنية متكررة أفقدته القدرة على الكلام، ويشير بيده إلى الحاج محمد بأصابعه للتأكيد على أنّ عدد الموتى هم خمسة وليس أربعة، وأيده باقي زملائه في هذه المحنة. الموت يعرفنا خمسة من العمال توفوا في ليلة واحدة بسبب تفاقم مرض «السيليكوز»، الذي سكن أجسادهم الضعيفة حتى نال منها، يتحدث هؤلاء العمال عن الموت كأنهم يتحدثون عن زائر لم يعد غريبا عنهم، فهذا يتحدث عن معاناة زميله وكيف كان يقضي أيامه الأخيرة، وذاك يصور الوضع الصحي لوالده «أبي في السنوات الأربع الأخيرة من حياته بدأ يتقيأ الدم، كان منظرا مؤلما ومروعا في الوقت نفسه»، يقول عامل سابق عمل رفقة والده بالمناجم التي أغلقت أبوابها منذ 16 سنة. العشرات من المرضى، بل المئات توفوا بالطريقة نفسها، فالذي يملك موردا آخر غير ما يمنح له في إطار التعويض عن المرض المهني، قد يمدد في عمره سنتين أو ثلاث، ومن لا يستطيع، كما هو الحال بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة لهؤلاء العمال، فالموت أقرب إليهم من أي شيء آخر. «هذا المرض لا دواء له، لكن يمكن التخفيف من حدته بالاهتمام الفائق، على المريض أن يتغذى جيدا وأن يقي نفسه من الظروف المناخية القاسية سواء شتاء أو صيفا، وهذا طبعا يحتاج إلى مصاريف إضافية، والناس هنا كما ترى مطحونون تحت الأرض وفوقها»، يقول عامل لم يمهل المرض زميلا له سوى بضعة سنين قبل أن ينال منه منذ أسبوعين فقط. إن الطمع في أن يمهل المرض هؤلاء بضع سنوات، كمن ينتظر السراب، فالجميع هنا بالكاد يستطيعون توفير قوت يومهم، إذ أن العديد من ذويهم اقتحم سوق الشغل لتحمل مسؤولية واحدة ووحيدة، هي مساعدة مرضاهم على التعايش مع المرض إلى حين، «منا من باع ممتلكاته في سبيل توفير القليل من العلاج، ومنا من انخرطت نساؤهم وبناتهم في العمل كخادمات بيوت علهن يجلبن بضعة دريهمات نهاية كل يوم» تقول سيدة مسترجعة شريط الأحداث الذي عاشته رفقة زوجها قبل أن يفارق الحياة منذ أربع سنوات بسبب «السيليكوز».
البحث عن علاج منذ مدة والمرضى ينتظرون أن تخرج وزارة الصحة إلى الوجود، الجناح المتخصص في مرضى السيليكوز، ومن المفترض أن يخرج هذا الجناح الذي سيكون تابعا للمستشفى الإقليمي لجرادة في يونيو المقبل، لكن المرضى ومن خلال معاينتهم لسير الأشغال يقولون بأن تقدم الأشغال في الورش لا يتجاوز إلى حدود هذه الأيام 20 في المئة أو 30 في المائة على أقصى تقدير. في انتظار أن تتحقق هذه الأمنية، وحسب الوثائق التي حصلت عليها «أخبار اليوم»، يتم استغلال جناح الطب العام بأكمله وأحيانا جناح الجراحة العامة لاستشفاء المرضى، لكن المرضى يطالبون بعمل الوحدة الصحية «ابن رشد» طبقا للاتفاقية الاجتماعية المبرمة بين وزارة الطاقة والمعادن والمركزيات النقابية بتاريخ 17 فبراير 1998، حيث اتفقت حينها الأطراف على توفير طبيبة مختصة وممرض وكذا سيارة إسعاف. في السياق نفسه، لازالت قضية الأكسجين تورق وتثقل كاهل المرضى، فهم يطالبون باستمرار بتوفير الأدوية اللازمة وفقا للائحة المعتمدة من طرف وزارة الصحة، بالرغم من أن الوزارة تؤكد وفق مراسلة لها لعامل عمالة جرادة في مارس من السنة الماضية أن الأدوية متوفرة بالصيدلية الإقليمية التابعة لمندوبية وزارة الصحة بجرادة، وخصصت لها غلافا ماليا يقدر ب 500,000 درهم برسم سنة 2013، كما أن الأدوية المتوفرة بالصيدلية، هي كذلك «موضوعة رهن إشارة هؤلاء المرضى في جميع مجالات الاستشفاء ماداموا يستفيدون من مجانية العلاج»، شأنها في ذلك، شأن الخبرة الطبية للمتضررين التي يحتاجونها في تقييم العجز، حيث أكدت الوزارة أنها تتم بالمصلحة المكلفة بذلك بصفة دائمة ومستمرة كلما توصلت بملف مريض.
رحلة البحث عن التقاعد! منذ إغلاق المناجم ومرضى «السيليكوز» وضحايا حوادث الشغل وذويهم تائهون في رحلة البحث عن تقاعد يساعدهم في أرذل العمر، حوارات ماراطونية ومراسلات متتالية، من أجل تبيان الخيط الأبيض من الأسود في ملف يكبر يوما بعد آخر. المتضررون الذين سبق لهم أن اجتمعوا مع جميع المتدخلين في ملفهم في 15 ماي من السنة الماضية تحت إشراف العامل السابق لجرادة مصطفى عيدة، توصلوا إلى اتفاق يضمن حدا أدنى من حقوقهم على هذا المستوى، غير أن مضامينه ظلت وفق شهادات العديد منهم «حبرا على ورق»، إذ يعتقدون أن المعركة المقبلة تكمن في تنزيل تلك المضامين على أرض الواقع «ما يؤرق العديد منا هو احتساب التقاعد الذي سنتقاضاه بالعودة بنا إلى سنة التسريح، ومنها التراجع إلى الوراء ثماني سنوات لتحديد النسبة، عوض احتساب التقاعد لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي باحتساب الحد الأقصى ابتداء من اليوم والسنة التي يبلغ فيها المستخدم سن التقاعد»، يقول درويش العربي واحد من المتضررين باحتساب التقاعد وفق الطريقة المطروحة حاليا، العربي كما جميع العمال الذين تم تسريحهم منذ ست عشرة سنة لن يتعدى تقاعده حدود 1500 درهم، في الوقت الذي يقول العديد من المرضى والعمال السابقين بأن فئة أخرى من العاملين بالقطاع كالمهندسين كانت الشركة تدفع لهم أقساطا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفي صندوق تكميلي مكّنهم من تحقيق تقاعد مريح. وحتى المرضى الذين لم يستوفوا عدد الأيام المخولة لهم في الاستفادة من التقاعد والمتمثلة في 3240 يوما من الذين صرحوا بمرض «السيليكوز»، الذي يعتبر مرضا مهنيا بامتياز والمصرحين بحوادث الشغل، يعتبرون أن التقاعد بالصيغة التي يطرحونها حق مشروع «كيف يعقل أنّ هناك عمالا سُرحوا في الوقت الذي لم يبلغوا عدد الأيام المخولة للتقاعد أن يتم اقصاؤهم، في الوقت الذي نعلم جميعا بأن التسريح من العمل كان إجباريا ولم يكن اختياريا»، يقول عامل لم يستوف أيام التقاعد العادية، قبل أن يذكر أحدهم بمضامين التصريح الذي أدلى به عبد الواحد سهيل، وزير التشغيل السابق في فاتح ماي 2012 حول استفادة الأشخاص الذين لم يستوفوا عدد الأيام للاستفادة من التقاعد.
من صناديق إلى صندوق! في القانون المالي لسنة 2012 وبالضبط في الفصل 17 منه، أقرت الحكومة تدبيرا جديدا يهم العمال السابقين وذويهم، حيث قامت بتفويت التدبير الإداري والتقني والمالي لصناديق العمل التي كانت تشرف على منح الإيراد والزيادة فيه (مستحقات حادث الشغل والمرض المهني)، إلى الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين ابتداء من فاتح يونيو 2013، غير أن عملية التفويت بطيئة وغير واضحة، يقول المعنيون. هذا، وبالرغم من أن وزارة التشغيل، إبان عملية التفويت، أقرت بأن الهاجس المتحكم في هذه العملية، يكمن في عدم تمكن إدارة صناديق العمل من «تسوية جميع الملفات «نظرا إلى الطبيعة المتطورة للأمراض المهنية»، وتفويت الملفات للمؤسسة الجديدة «ستمكن من بلوغ الغاية المنشودة»، لكن المرضى وذويهم يطالبون أولا بتحديد عدد الملفات التي سيتسلمها الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين من طرف إدارة صناديق العمل، أي عدد دفاتر الزيادة في الايراد وعدد ملفات طلب تحويل دفتر الإيراد إلى ذوي الحقوق وعدد طلبات الحصول على دفتر الزيادة في الإيراد، وعدد دفاتر المنحة التي تحل محل الإيراد غير المؤدى، بالإضافة إلى ملفات اليتامى الذين لم يتوصلوا بمستحقاتهم، كل هذا موثق في محضر تسليم، قبل الانتقال إلى المستوى الثاني من المطالب الذي يضم عددا من الإجراءات التي يقولون بأنها ستضمن الاستفادة المثلى من حقوقهم كاستخلاص الإيراد والزيادة فيه بدون اقتطاعات، في يناير وأبريل ويوليوز وأكتوبر، فيما الزيادة في الإيراد في فبراير، ماي، غشت ونونبر.