لم يكن الراحل، بحسب هذه الشهادات، مجرد أستاذ جامعي تمكن من تكوين جيل من الباحثين في مجال علم الاجتماع، بل تمكن بفضل معرفته وعمله السياسي وتواضعه والتزامه الأخلاقي من أن يحتل مكانة رائدة ضمن قائمة شخصيات المغرب الأكثر تأثيرا. كانت السبعينيات فترة بارزة وحاسمة في حياة الراحل محمد جسوس، حيث تمثل هذه الفترة المنعطف المهم الذي وسم مسيرته بميسم خاص. إذ خلالها بدأ في إرساء أسس علم الاجتماع، وعمل على توطين هذا العلم الجديد على تربة التعليم الجامعي المغربية. كما تمكن أيضا من نسج علاقاته الراسخة والثابتة، سواء مع جيل الباحثين والكتاب المغاربة البارزين، أو مع طلبته ممن سيحولون اليوم إلى أيقونات علم الاجتماع المغربي أو مجالات أخرى. وهذه الفترة ذاتها، شهدت مثلا قيام علاقة صداقة وعلم بين الراحل والكاتب والمفكر والفقيه أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية بالرباط. إذ يقول هذا الأخير إنه تعرف على الراحل محمد جسوس منذ بداية السبعينيات بعد التحاقه أستاذا بكلية الحقوق في الرباط، مشيرا إلى أن تعارفهما حدث أثناء العمل النقابي بالنقابة الوطنية للتعليم العالي. النقابة في صالح الجامعة في هذا السياق، يقول الخمليشي إن المرحوم عمل من خلال النقابة على إنزال العمل الجامعي منزلة خاصة، وعلى إرساء أسس سليمة للجامعة المغربية، موضحا أنه «كان ملتزما من الناحية السياسية ثابتا على المبادئ، ومقاوما لكل الإغراءات المادية والإدارية، حيث عاش على العفاف والكفاف، مكتفيا بالكراء بدل البيت، وبالسير على الأقدام بدل السيارة». وفي الجامعة، كان الراحل، كما يقول الخمليشي، «مثالا للأستاذ الشغوف، حيث كلف طلبته بإنجاز بحوث في المغرب، وحتى في الخارج حيث كانت جالية مغربية مهمة، تدفعه الرغبة في مغربة علم الاجتماع وتوطين هذه المادة، متفانيا في تلقينها لعشرات الطلاب الذي ورثوا منه هذه الروح. ومن جهة أخرى، يعتبر أحمد الخمليشي وفاة محمد جسوس «خسارة فادحة للجامعة المغربية والفكر المغربي السياسي والجامعي، لأنه كان عنوانا بارزا في المجالين». كما دعا طلابه إلى مواصلة مساره وإيصال رسالته واتباع طريقته قصد «إنتاج ما كان يرغب فيه». ويرى صديقه عبد القادر باينة في رحيله أن المغرب فقد علما من أعلامه الفكرية والعلمية، ومناضلا حقيقيا ومثقفا عضويا أبان طيلة حياته عن التزامه بالتعليم والتكوين والتفاني في العمل السياسي والالتزام بقضايا الجماهير من خلال نضاله السياسي داخل حزب الاتحاد الاشتراكي. في هذا السياق، يتوقف باينة عند جانب مهم من حياته لم تسلط عليه أضواء كثيرة. يتعلق الأمر بمشاركته في تدبير الشأن المحلي خلال التجارب الإدارية الأولى بمدينة الرباط، معتبرا إياه أنه كان من الأقطاب الأساسية في النهوض بالعاصمة خلال السبعينيات. إذ يتوقف على الخصوص عند تجربته في إدارة الجوانب المالية في جماعاتها المحلية، وإصلاح النقل الحضري، وخاصة تطوير مناهج القضاء على الأحياء القصديرية (حي دوار الدوم مثلا). وتستحضر شقيقته نزهة جسوس الأخ الأكبر، الذي يحضر داخل أفراد العائلة بمثابة الأب. إذ وصفت الراحل بكونه رجلا مسالما ومنفتحا وحنونا مع جميع أفراد العائلة، مشيرة إلى أهم ميزة تميزه قدرته الكبيرة على التواصل مع جميع أفراد العائلة بكل أجيالها، سواء الأجداد والأعمام والأخوال، أو الأبناء والأحفاد. وهي ميزة جعلته، كما تقول نزهة، صاحب حضور قوي في البيت. من جهة ثانية، تشير إلى أنه يشكل تتمة للسلالة العلمية للشيخ عبد السلام بنحمدون جسوس، الذي قتل خلال القرن السابع بسبب رفضه تقديم فتوى. كما تقول إن المغرب فقد فيه باحثا مستقلا وعالما متواضعا وغيورا، وفقدت فيه العائلة أبا وأخا نبيلا. التعليم رسالة كونية وفي أولى الشهادات التي أدلى بها طلبة بارزون من طلاب الراحل محمد جسوس، عبرت الكاتبة والباحثة رحمة بورقية عن شعورها بحزن عميق لفقدانه، معتبرة إياه «الأستاذ الذي ساهم في تكويني وفي مساري المهني والذي رافق مسيرتي منذ السبعينات عندما دخلت الكلية كطالبة، وهو، في ذلك الوقت، الأستاذ المغربي المتميز بين زمرة الأساتذة الفرنسيين في شعبة الفلسفة القسم الفرنسي». كما أشارت إلى أن المغرب فقد «رجلا عظيما وأحد أعمدة علم الاجتماع وحكمائه الذين سيتركون بصمة نيرة في تاريخ الجامعة المغربية». من جهة ثانية، قالت بورقية في شهادة توصلت جريدة «أخبار اليوم» بنسخة منها، إنه «من الصعب أن نتحدث عنه ونحن لم نستوعب بعد صدمة وفاته؛ ولكن يحضر في ذهني شريط الخصال الراسخة لأستاذنا: كمنظر مفكر مثقف، وكأستاذ مؤطر ومربي، وكمنشغل بهم تغيير المجتمع. وفي هذا السياق، ذكرت أن «محمد جسوس مسكون بانشغال فكري دائم لا يكل من نهل المعارف والتهام الكتب، ومواكب لتطور وتراكم المعارف ومستجداتها، ليكون موسوعة فكرية متحركة وعقلا ناقدا ومحللا للواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، وطارح للأسئلة الجوهرية حول مجتمع يتحول». كما وصفت الراحل بكونه «يجسد المثقف الذي خلق التفاعل بين التراث النظري في علم الاجتماع والمعرفة كأداة للفهم والتغيير. إنه العالم المتواضع، والمثقف بالمعنى السامي للكلمة، والمنخرط في القضايا المدنية من موقعه كمثقف». وفي حديثها عن آثاره العلمية والمعرفية، قالت بورقية إن المرحوم لقّن أجيالا بكاملها من الطلبة، «لا المعارف فحسب، ولكن أيضا قيم النزاهة الفكرية والالتزام بأخلاقيات المعرفة والانخراط في حماية وصون الحياة العامة». وأضافت أنه «لم تكن الأستاذية بالنسبة لسي محمد جسوس مجرد وظيفة، وإنما هي رسالة إنسانية كونية لإيصال المعرفة وتنوير فكر طلابه وبناء الشخصية المواطنة. لم يكن لسخاء السي محمد جسوس حدود مع طلابه سواء بمنحهم كل وقته أو بوضع معارفه وخزانته في متناولهم. لقد احترف الأستاذية في الجامعة المغربية بأخلاق عالية قل نظيرها. لم تستهوه الماديات ولا المناصب بالقدر الذي كان يشعر بالنشوة كلما حاضر بحماس وبموسوعية أمام غفير من طلابه، وكلما امتلأت بهم جنبات المدرج، وبالافتخار كلما قاد تأطيره أحد طلبته لإنهاء أطروحته». تذكر بورقية أيضا أن جسوس «كان يقول لي دائما أن حماسه في التلقين يتقوى كلما لاحظ في عيون طلبته اهتماما بما كان يفوه به في محاضراته». إذ تعترف هنا «بالفعل لم نكن كطلبة نخفي إعجابنا بمحاضراته ومتعتنا بالاستماع إليه وهو يحلل أمامنا بعقلانية مقنعة وبفيض من المعارف الواقع الاجتماعي. لقد كان الجزاء الذي يتلقاه الأستاذ عن عمله يتلخص في أداء مهمته وفي رضا ضميره الحي على ذلك الأداء». في حين، تقول إن الراحل انشغل «بمآل تغيير المجتمع المغربي لتأخذ السياسة جزءا من وقته وحياته. غير أنه لم يجعل من السياسة حرفة، وإنما همّا فكريا وتغييرا من موقعه المعرفي وانشغالا دائما بالتغيير الذي يبدأ من الذات أولا، ليكون قدوة حية في الممارسة المعرفية والسياسية. وهذا ما كان يميز وينفرد به أستاذنا المرحوم عن أغلب محترفي السياسة». ويعتبر المختار الهراس، الباحث المتخصص في علم الاجتماع، واحدا من أبرز الطلاب الذين تعلموا على يد المرحوم محمد جسوس، وأحد أقرب الزملاء الذين عملوا إلى جانبه بعد التخرج إلى حين تقاعده عن العمل. يقول الهراس عن الراحل إنه كان «عالما متواضعا إلى أبعد الحدود»، مشيرا إلى أنه أنجز العديد من البحوث تحت إشرافه، بدءا ببحث الإجازة وبحث استكمال الدروس ورسالة دبلوم الدراسات العليا. ويضيف هنا أن جيله استفاد من علم الراحل، موضحا أنه وضع جيل السبعينيات والثمانينيات على سكة السوسيولوجيا وأدخله في الفضاء السوسيولوجي بمفاهيمه ونظرياته وأنماطه التحليلية المختلفة. دفع الطلبة إلى الميدان وتميز الراحل محمد جسوس، بحسب قول الهراس، بميزة أساسية مفادها أنه لم يكن يترك الأستاذ الشاب الذي التحق بالكلية يشتغل لوحده. وبذلك تمكن من خلق مجموعة من الباحثين في مقدمتهم رحمة بورقية وإدريس بنسعيد وآخرين، حيث كانت هذه الجماعة، كما يذكر الهراس، تتقاسم نفس الدرس وتتشاور في مضامينه ومحتوياته ومناهجه. وله فضل آخر يكمن، بحسب شهادته، في اختياره لمجموعة من المراجع الأساسية، من بينها كتب للكاتب سمير أمين، وأخرى لممثلي السوسيولوجيا في أمريكيا اللاتينية، وهي مراجع أساسية كان جسوس يقترحها في فترة الإجازة. ويتذكر الهراس أن المرحوم خلق لدى الطلبة اهتماما بالميدان، موضحا أنه «لم يكن يفهم السوسيولوجيا كنظريات فحسب، بل باعتبارها ممارسة ميدانية، حيث كان حريصا على دفع الطلبة إلى الميدان». وإلى جانب هذا، كان شغوفا بالأبحاث التي ينجزها الطلبة. وبلغ حبه لهذا المجال المعرفي، كما يقول الهراس، أنه لم ينسحب من السوسيولوجيا رغم الحصار الذي ضرب عليها، حيث «ظل صامدا في الجامعة مع طلابه، رغم البدائل المادية والرمزية التي طرحت عليه». ويختم الهراس شهادته بالقول إن «ثمار هذا الصمود بادية اليوم في القافلة السوسيولوجية التي نراها اليوم، والتي يعتبر جسوس قائد قاطرتها». يعترف الباحث إدريس بنسعيد، وهو واحد من الأصدقاء المقربين إلى الراحل، بمدى عجزه عن اختزال خصال عالم الاجتماع محمد جسوس. إذ يعتبر أن تعدد مزاياه وطول صداقتهما وعشرتهما يصعبان مهمة اختصار مسيرته الحياتية ومساره العلمي والبحثي، باعتباره أب السوسيولوجيا المغربية وقيدومها بامتياز. لكن بنسعيد يأبى إلا أن يقدم شهادته عن الرجل من خلال مشاركته في حفل تكريم الراحل في تطوان بمناسبة المنتدى الوطني الأول للفكر السوسيولوجي بالمغرب، حيث توقف عند بعض محطات من حياة محمد جسوس: ارتبطت المحطة الأولى بعودته من الولاياتالمتحدةالأمريكية وشروعه في تقديم دروس حول الطبقات الاجتماعية، إلى جانب عبد الواحد الراضي، بشعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، حيث كان إدريس بنسعيد طالبا من طلبته. وقد ارتبط هذا الدرس لديه- ولدى طلبته أيضا- بالنضال السياسي والطلابي ضد القمع والاستبداد المخزني- وكذا بانفتاحه على مفاهيم جديدة في الحقلين العلمي والسياسي مثل: الاختلاف والتعدد، الخ، في سياق طبعه الصراع وسيادة الرأي الواحد. في هذه المرحلة أيضا، يتوقف بنسعيد، في شهادته عن الراحل، عند أربعة مبادئ في حياته هي: نسبية العلم، الفصل بين العلم والسياسة، الاختلاف وفهم الآخر، ضرورة البحث العلمي. كما يتوقف عند انشغالاته اليومية خلال فترة السبعينيات، حيث يقول إن «الأستاذ محمد جسوس ولسنوات طويلة كانت التزاماته كثيرة وهامة في المجلس البلدي وفي المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفي التدريس في كلية الآداب وكلية الحقوق، وفي المدرسة الوطنية للإدارة وفي مدرسة المهندسين، وفي مجالات متعددة… ولم يكن من مصطلحاته شيء اسمه العطلة أو الراحة». مؤسس الدرس السوسيولوجي وتتصل محطة أخرى من حياته بانتقال عدد من طلبته إلى التدريس في الجامعة، ضمن شعبة علم الاجتماع، من أمثال إدريس بنعسيد نفسه والمختار الهراس، وبغنى النقاشات الفكرية والمعرفية التي بدأت تشهدها جامعة محمد الخامس، ابتداء من أواسط السبعينيات، خاصة بعد التحاق الأسماء التي ستشيد صرح الفكر المغربي وتخلصه من التأثير المشرقي، من أمثال عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري وفاطمة المرنيسي ومحمد سبيلا، الخ. إذ يقول بنسعيد، في هذا السياق، إن جسوس كان على سبيل المثال سباقا إلى دراسة الحركة الإسلامية منذ الثورة الإيرانية سنة 1979. كما كان سباقا إلى دراسة قضايا اجتماعية لم تكن تحظى باهتمام الباحثين مثل: الباعة المتجولون في العاصمة الرباط. من جهة أخرى، اعتبر الباحث محمد الصغير جنجار أن المغرب يفقد برحيل محمد جسوس، رائد ومؤسس الدرس السوسيولوجي في الجامعة المغربية، مشيرا إلى أنه درّس أجيالا بكاملها. كما اعترف أنه وزملاءه في هذا المجال العلمي تعلم من الراحل المواجهة مع المعطيات الإمبريقية والبحث الميداني، موضحا أنه انخرط بفضله في المساهمة في دراسات حول الأحياء الشعبية والباعة المتجولين، الخ. في هذا السياق، يتذكر جنجار أنهم كانوا يطلقون على الراحل «سقراط»، لأنه لم يكن يكتب، رغم أن الجميع كان ينتظر كتاباته وتدوين أفكاره. ويتذكر أيضا كرمه وسخاءه، مشيرا إلى بيت الراحل كان مفتوحا في وجه الطلبة، وقدم خدمات جليلة لكل طلابه. كما لا يغفل الهدية الثمينة، التي قدمها لمؤسسة آل سعود، حينما كانت بصدد جمع رصيدها الوثائقي، وهي عبارة عن ذخيرته من أعمال التحليل النفسي في أمريكا. وقد ظل المرحوم محمد جسوس، بحسب شهادة توصلت بها «أخبار اليوم» من الباحث نور الدين الزاهي، «طيلة حياته من الوجوه السوسيولوجية الأكثر إثارة للجدل». إذ يرى فيه «مناضلا يساريا وباحثا سوسيولوجيا ومدرسا في الجامعة ومتدخلا باستمرار في كل ما يهم قضايا المجتمع المغربي العلمية والتربوية والسياسية. رجل الساحة العمومية بامتياز». من جهة أخرى، يعترف الزاهي أن الراحل كان « يفتح باب مسكنه القديم بحي أكدال بالرباط لطلبته، وداخله يدير حلقات التكوين المدعة لعمله بالمدرج الجامعي». كما يذكر في هذا السياق أن الباحث محمد زرنين اقترح عليه حضور حلقات الراحل، مشيرا إلى أنه «لم يتردد في قبولي وكنت محظوظا بتلقي محاضراته المطولة في قضايا مختلفة. وعلى طريقة سقراط العظيم كان يضع فوق مكتبه الصغير كما من الكتب لا يقل عن عدد السجائر التي يحرقها تباعا وكأنه سيتلو منها ما يهم قضية الحلقة التكوينية». ويتابع الزاهي هذه الشهادة بالقول إنه «لم تكن تلك الكتب سوى ذرائع لفتح درسه الحر والمتحرر من الوثيقة والتوثيق. لقد كان يضعنا أمام الكتاب ويسافر بنا جميعا في عالم الأفكار الملفوفة بدخان سجائر الذي لا يفتر».